هناك كنا نشعر بالسوء الذي آلت إليه بلادنا ، منتجعات للفقر ، يسكن فيها ألاف البشر ، نمر عليهم في الحين والآخر ، نوزع عليهم الطعام والكساء ، ونبحث عن المرضى لنأتي لهم بالدواء ، كنا نعود من هناك و نحن نسأل بعضنا ، لم لا يهجم علينا هؤلاء ؟!، لم يرضون بهذا الذل و الهوان ؟ ، وينتظرون منا الفتات الذي لا يكفيهم ؟! كنا في الحقيقة نعود ونحن نحمد ربنا على ما آتانا ، وندعوه بأن ينجينا من ثورة جياع قد تحدث !!.
أما هنا ، فيما بيننا ، كنا نجد بعضهم لم يستسلم لظروفه ، فجدّ في البحث عن الأكل الحلال ، فابتاع عربة ليبيع فيها طعاما ، أو أشتغل بائعا جائلا يجوب الطرقات ليأتي لعياله بما يسد جوعهم ، أو وقف في الشارع ليعمل سايسا للسيارات ، كنت أستغرب هؤلاء ، كانوا في بيئة مهيئة لأن يصبحوا لصوصا ، لأن يسرقوا فقط ليطعموا أبنائهم ويعالجوا ذويهم ، ولم يكن ليحاكمهم أي دين أو عرف على ذلك ، لكنهم اختاروا البحث في المتاح ، والرضى بالقليل الحلال ،والبعد عن الكثير الحرام.
دعوتهم حينها مواطنين صالحين ، اختاروا الصبر حتى الفرج ! .
في أثناء دراستي لا زلت أذكر تعريفا للهندسة قالها لنا أحد الأساتذة ، أن الهندسة هي حل المشكلات في إطار الوسائل المتاحة ، وهذا ما كان يفعل هؤلاء ، بدون علم أو إدراك ، وهذا ما حاول ان يفعله الكثير ، و حاولت أن تفعله كل جمعية خيرية مثل رسالة أو رجل تنموي مثل عمر خالد ، مجرد مداواة لجرح وطن ينزف ويتألم ، في انتظار الجراح الذي سيتدخل ليستأصل داءه اللعين .
كنت مؤمنا أن هذه المداوة و هذا الصبر سيكون لهم أي أثر ، إن لم يكن في إستئصال الداء ، ففي تقليل الآثار الناجمة عنه ، كنت أدرك تماما أننا لو جلسنا نفعل هكذا لمئات السنين ، فلن ينصلح حال لهذا البلد ، كنا نحن مواطنين صالحين ، وكانوا هم أيضا مواطنين صالحين ، وكان هدفنا ابقاءهم في هذا الوضع حتى يقضى الله أمرا كان مفعولا.
حتى قامت الثورة ، وكأنها فرج الله عليهم ، وفرجه علينا أيضا ، حدثت أحدهم يوما فقلت : "هذه الثورة لكم ، ضد نظام حرمكم ، وبدأ في حرماننا من مساعدتكم ، الآن صارت الوسائل أكثر ، وصار علينا بدلا من مساعدتكم ، تعليمكم كيف تساعدوا أنفسكم".
لم يكن يعنينا ونحن نساعد هؤلاء أن يصبح لنا أي أثر في الثورة ، كان همنا الأول أن لا يبات مواطنا في هذه البلاد دون طعام أو كساء أو دواء يحتاجه ، لكننا سعدنا عندما عرفنا أن ما فعلناه كان له أثرا صغيرا في هذه الثورة ، وفي الحفاظ عليها في أشد أيامها صعوبة ، تريد أن تعرف كيف ؟! ، فلتستمع لحكاية صديقي الذي كان رابضا في الميدان
قال لي:
"كانت الساعة قد قاربت الخامسة مساء ، يوم موقعة الجمل ، والقتال ما زال سجالا بين الجميع ، كنت متفرجا في البداية وأفكر في الرحيل ، ولكنني بعد قليل قررت المشاركة ، كان من يهجمون علينا محترفون حقا ، فلم تكن أحجارنا تصل إليهم ، أما هم فأحجارهم طويلة المدى وتصيب بدقة ، حملت لوح معدنا فوق رأسي وقررت الاقتراب أكثر ، كنت أريد أن اعرف من هؤلاء وهل هم حقا أتباع الرئيس أم أنهم بلطجية محترفون كما يبدو ، وحين بدوت أقرب إليهم ، أتت عيني في عينيه ! ، نعم أنا أعرف هذا الفتى ، هو ذلك الذي كان يعيننا في توزيع الدواء والكساء في منطقته الفقيرة ، وكان يمنع عنا الزحام والفوضى ليوصلنا للمحتاجين حقا ، توقفنا أمام بعضنا للحظات قليلة ، حتى أسقط الحجر الذي في يديه ، وسألني سؤالا واحدا وبصوت عال : أنت من المتظاهرين ؟! ، أجبته: نعم ، فبدا عليه الأرتباك ، و علا صوته لينادي بعضا من أصدقائه ويطالبهم بالرحيل " .
أخبرني صديقي أنه يعرف هؤلاء العاطلين ، وأنه يعرف كيف يجمعونهم ، ويستغلون جهلهم وحاجتهم ليعكسوا لهم الحقائق ، فمن في ميدان التحرير عملاء مندسين ، أما هم فمن سينقذون الوطن منهم ، وفي المقابل يدفعون لهم أموالا ، ربما لا تكفيهم إلا لقوت يوم واحد.
أخبرني بأن منهم مواطنون صالحون ، لم يحاولوا أن يسرقوا يوما ، لكنهم لم يجدوا معينا لهم على الفقر والجوع والعوز الذي يحيط بهم ، إلا من يأتيهم بين الحين والآخر ليوزع عليهم ما يشاء ، وكيف يشاء ، ربما هم مخيفون لبعضنا ، لكنهم في حقيقتهم ليسوا أشرارا ، ودليله أنهم لا يتحركون ليفسدوا إلا بأوامر عليا ، ولكسب الرزق الممنوع عنهم ، أما إن تركتهم وشأنهم ، فستجد كل منهم يحاول ان يجد قوت يومه دون أذية لأحد.
وافقته الرأي ، ووافقته أن هذه الثورة لابد أن تبدأ بهؤلاء الصالحين ، فتوصلهم إلى سبل الحياة الكريمة قبل أن تبدأ في تطويرنا ، هؤلاء من احتملوا ذلا رأيته بعيني ، ما كان منا ليحتمله ساعة ، ورغم ذلك لم تمتد يد بعضهم للحرام ، ونحن منا من كان يغترف منه اغترافا وهو يعيش في قصره وبين خدمه.
تحية لكل شهيد ، صار حيا عند الله بإحياءه هؤلاء .
تحية لكل مصاب ، داوى بجراحه آلامهم.
تحية لكل من شارك في الثورة من أجلهم.
تحية لكل مواطن صالح منهم صبر ولم تمتد يديه إلى الحرام وهو مسهل له.
تحية لكل مواطن صالح منا لم يبخل بوقته وماله وكلماته لمواساتهم، وإعانتهم على قضاء ربهم.
إن فشلت فأن تزرع في داخلك وردة ، فحافظ على أرضك خصبة ، فربما يأتيك من يزرعها.
تحياتي
ش.ز
0 التعليقات:
إرسال تعليق