السبت، 4 يونيو 2011

ليس من الإسلام


"أريد كتابا يدعوني إلى الإسلام"

قد لا تستغرب الطلب ، ولكنك قد تستغرب الطالب ، خاصة إن عرفت أنه عربيٌ مسلمٌ وعاش في أرض المسلمين ، بل و ناهز الثلاثين من عمره.

وليس الاستغراب هنا من شخص يحاول معرفة دينه فهذا محل إحترام وتقدير ، وإنما من شخص يقيم شعائر دينه ما يقارب العشرين عاما دون أن يفهمها !! ، فنحن المسلمون ، فينا من اتخذ دينه عادةً وُلِد ليرى أبويه يقيمانها ، فلا عجب إن رأيته يقيم شعائره صباحا ، ويبيت طوال الليل يشتم أباه أو أمه !!.

وقد يكون هذا ما حاول أن يوصله إلينا الشيخ محمد عبده عبر أكثر من مائة عام حين قال تعليقا على زيارته لأوروبا:

وجدت هناك اسلاما بلا مسلمين ، وأجد هنا مسلمين بلا إسلام

غير أني أجد في ذلك إثما يقع على الجميع ، بداية من الأب والأم اللذان لم يفهما الأبناء المعنى الحقيقي للدين ، مرورا ببعض العلماء الذين انفضوا لمناقشة أمور الحلال والحرام وما رأوه دفاعا عن الدين بالهجوم على كل شيء ليس منه ، منصبين أنفسهم - بدعوى العلم - جنودا للدفاع عن دين الله ، ونسوا أو قل تناسوا أن إعلاء أسس ومبادئ الدين في نفوس الناس هي وظيفتهم الأولى ، وهي سلاحهم الأقوى ضد أي عدو للدين ، وهي الكفيلة لأن يكون كل مسلم حارسا شديدا على كل ثغر من ثغوره. ونهاية بالشخص نفسه -وهي أقل الآثام عندي- ، و الذي بات يقيم الشعائر والعبادات جسدا بدون روح ، فأضاع وقته و يا ليته قد استغله في استعادة هذه الروح ومعرفة معناها.


وقد فاجأني شيخ الأزهر الجليل "محمد الغزالي" ، حين وجدته يخصص أكثر من نصف كتابه المسمى "ليس من الأسلام" ، لشرح الإسلام نفسه ، أهدافه ومناهجه ، ليخرج كل ما تعدى على هذه المبادئ والأهداف ، دون التنقيب عن أي نصوص أو أحاديث قد أوّلت لبحث مسألة بعينها.

فتراه يتحدث عن الأسلام ، ليس إسلام الشعائر كالصلاة و الزكاة والحج ، وإنما اسلام السماحة والحب ، وعدم التقليد ، والتسامي ، والجزاء الحق ، والأخوة والمساواة ، والحدود (وليس إقامتها) ، وإشاعة النعماء ،و الجهاد ، والقرآن ، والسنة ، وعلاقة كل منهما بالآخر .

ولهذا المنهج الذي اتخذه الغزالي أسبابا وتفسيرا ، فقد لا يمر في رؤوس بعض المسلمين حين الحديث مثلا عن الحدود أو الجهاد سوى الدماء (فما بالك بغير المسلمين) ، وهذا خطأ كبير ، فالدماء ما هي إلا الشيء المادي الظاهر للمسألتين ، أما روحهما فتختلفان كثيرا ، يقول الغزالي في الحدود :

"والشدة التي تتسم بها عقوبات السرقة والزنا ، ليست الوسيلة الفذة لحماية الأعراض والأموال ، وحمل النفوس على احترامها ...
فإن صيانة الحقوق العامة تستند اولا إلى الإيمان والعبادة والخُلق ...
وما تجدي أقسى الحدود في رفع امة اهتزت فيها الضمائر واضطربت العقائد ...
والأسلام شديد الحرص على مطاردة الخطأ إذا استعلن ...
وما يعده -أو يتوعد به على الأصح-  من جلد وقتل هو لأبقاء البيئة العامة محصنة ، لا يتطور فيها الشر من لمم محقور إلى إثم محظور ."

ويقول في الجهاد :

"إن الجهاد المثمر ، يحول الخير من علوم نظرية ، و مسالك فردية ، إلى حقائق ثابتة ، وتقاليد عامة ، ومناهج منظمة."

إن نسيان المبادئ والأهداف التي قامت من أجلها تلك المسائل ، هي التي شوهتها وجعلتها بصورتها الوحشية التي يصورها لنا البعض ، فأي جسد تنزع عنه الروح و لا يتعفن ؟! وأي وجه تنزع عنه أذنه و تفقأ عينيه و تدمي وجهه ، ويصير جميلا بين الناس ؟!

هو ذات الخلط الذي نراه أحيانا بين الأسلام والأفكار الأخري!!
فكيف يقارن دين معصوم بفكر عقلاني مستحدث قد يصيبه الخطأ والوهن ؟! .

ولا أتحدث هنا عن المدارس الفكرية كالعلمانية والليبرالية والأشتراكية وغيرها ، وإنما يمتد كلامي حتى إلى الأفكار الأسلامية نفسه ،والتي قد يظن أهلها أنها معصومة كالإسلام من الخطأ لمجرد ارتباط إسمها به !! ،وهذا ليس صحيحا ،  فالإسلام ليس على مستوى المقارنة أصلا بالسلفية مثلا ، أو بالأشعرية ، أو بالشيعية ، ولا بغيرهما ، فشتان شتان بين دين معصوم و فكر عقلي يبنى عليه.

يقول الغزالي نقلا عن محاضرة للدكتور محمد البهي عن مقدمة ابن خلدون:

"إن الفكر الإسلامي ليس هو الأسلام ، بل هو صنعة المسلمين العقلية ، في سبيل الإسلام وبمشورة مبادئه ..
الفكر الإسلامي غير معصوم عن الخطأ ، والإسلام معصوم عن ذلك كله...
وكتاب الأسلام - لأنه معصوم عن الزيف والضعف – له قداسة ، وله حق الطاعة المطلقة على المؤمنين به ..
والفكر الإسلامي لا تجب له الطاعة ، إلا بقدر ما فيه من تمثيل لكتاب الله ورسالة السماء ، ذلك أنه أصالة يخضع للنقد والمخالفة ...
الفرق بين الإسلام والفكر الأسلامي هو الفرق بين ما لله وبين ما للإنسان ...
والصلة بين الأمرين ، هي الصلة بين شيئين ، أحدهما قائم على الآخر واستند إليه في قيامه ووجوده ، ولكن لا على ان يصوره تمام التصوير ، أو يكون معبرا عنه تعبير المثل بالمثل "

ففي الإسلام ، المذاهب الفكرية جميعها سواء ، ولا تختلف إلا بقدر ما تحمل من تمثيل لكتاب الله ورسالة السماء ، فليبرالية تهدف لتحرير الإنسان والعقل كفرد وكجماعة من القيود السلطوية الثلاثة (السياسية والاقتصادية والثقافية)، و تتحرك وفق أخلاق وقيم المجتمع  و تقف حدودها عند أذية الآخرين والضرر بهم هي فكرة إسلامية محضة ، ولا يعنيني من اخترعها و ما الذي علينا أن نسميها به .

ولكن البعض حاول أن يوقف منهج الإسلام التطوري  و يمنع إعمال العقل فيه ، و يدعو إلى التقليد ، والبعد عن التفكير ، وذلك لأن من قبلنا قد فكروا وعلينا الآن العمل بما توصلوا إليه !! ، ولست أرى ردا عليهم خيرا مما قاله الغزالي شارحا منهج الإسلام في عدم التقليد :

"إن إيمان التقليد لا خير فيه عند علماء الإسلام .
والعقل البشري يجب عليه أن يجوب آفاق السموات والأرض ، لكي يعرف الله والعالم.
وإلا فهو غافل عن وظيفته الأولى.
وكل ما يتولد عن تحرير العقل من نتائج قريبة أو بعيدة، وكل ما يؤدي إلى تحرير العقل من الوسائل صعبة أو ذلول ، فهي من أصول الإسلام ومراميه.
ولعل القارئ الحديث يدهش إذا علم ان الفكرة السائدة في الفقه الإسلامي أن :"العقل أساس النقل"، وأن ما يشيده الوحي من تعاليم ، إنما يقوم على مهاد من العقل المجرد والتفكير السليم."

نعم ، فالعقل المجرد و التفكير السليم هما الطريقان الثابتان للتجول في ربوع القرآن وسنة الرسول الكريم ، وليست قراءة ما سبق مما توصل إليه علماء الأمة سوى وسائل للتدعيم هذا الفهم ، وليس لتحديده و منعه من التطور والنمو.

العقل هو الذي يجعلنا نسأل بعد هذه الأعوام الطوال عن سبب لاعتناق الإسلام ، وأن نبحث عن شيوخ ليجددوا لنا إسلامنا ، و يدعوننا إليه مرة أخرى ، علنا نصل إليه ، ونعمل وفقا لمبادئه وأهدافه ، وليس تقليدا لما يفعله أباؤنا ، علنا نستطيع ان ننشر هذه المبادئ والأهداف ، وأن تغلب على أقوالنا ، فلا نصبح في حاجة إلى الدفاع عنه ليلا ونهارا ، فإنّ غيرنا إن علِمه منا بمجرد الأفعال ، فلن يشك أبدا أو يتبادر في عقله سؤالا ، إن كان أي فعل آثم كقتل أو حرق أو تخريب أو غيره ينبع من الإسلام أو ليس منه.
ويكفيني ان أختم بجواب جعفر بن أبي طالب على النجاشي حين سأله عن الإسلام فقال :

أيها الملك، إنا كنا قومًا أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى عبادة الله وحده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، فصدقناه وآمنا به، فظلمنا قومنا وعذبونا ليردونا إلى عبادة الأوثان، فلما ظلمونا، وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألا نظلم عندك.

ليست شعائر الإسلام وحدوده إلا وسائل ربانية لإقامة كل ما قاله جعفر في خطابه إلى النجاشي ، وما إقامتها دون تحقيق هذه الأهداف إلا تعب ونصب ليس من الإسلام في شيء.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل منها".

ش.ز

0 التعليقات:

إرسال تعليق