هو ميقات صلاة العشاء ، اقف بسيارتي في انتظار أحد
الأصدقاء ، المكان ميدان رابعة العدوية ، الميدان مظلم كعادته منذ عامين رغما عن
كل الأنوار المنتشرة في جنباته ، فلا شئ استطاع أن يعوض الإضاءة السابقة في هذا
المكان ، إضاءة المسجد الذي كان يتوسطه ، و الذي جدده - وللعجب - من أضرم النار
فيه ، لكنه قرر أن يغلقه ، وأن يحيطه بهذا الظلام ، وكأنه يخشى أن تظهر هذه
الأضواء أثار الدماء التي أريقت في رحابه ، و لم يزيلها تجديده الزائف ، بل زاد
حفرا لذكراها في قلوب الناس. أرفع رأسي لأرى ظلال المأذنة ، انتظر لأسمع الآذان ،
فلا أسمع سوى صدى الموت .
أخبرت صديقي الذي قابلته في الميدان و انصرفنا ، أخبرته أن
المكان أصبح مقبضا يذكرك بالظلم والقتل ، مهما حاولوا إضافة ذلك الكائن المشوه في
منتصف الميدان ، أو جددوا مسجده أو غيروا معالمه ، لن يقتلعوا ما زُرع في النفوس و
القلوب و الذاكرة. نقرأ لوحة مكتوب عليها "ميدان هشام بركات" ، بعد
أعوام قد يتسآئل أحفادنا ، لم يسمون ميدانا باسم نائبا عاما خان أمانته و تخلى عن
دفاعه عن الشعب ليدافع عن قاتليه . ربما قد يجدوا اجابتهم جينها في إجابة تساؤل أجدادهم
من قبل ، لم خلد آبائهم اسم وزير داخلية عرف عنه استخدامه للقوة المفرطة و أطلقوا
اسمه على شارع باع فيه و بحجته رفقاء الثورة بعضهم ، شارع "محمد محمود" !!!
....
هي رابعة ولا اسم لها عندي غير هذا ، و لا صورة في ذهني
ستحفر لها إلا ما سبق و كانت عليه ، هنا مررت سنينا ، صلبت كثيرا ، أفطرت أياما ،
نمت على أرضها بالساعات، قابلت أناسا أحبوا وطنهم ، و دينهم ، وقبل هذا وذاك ،
أحبوا الحق. ربما اختلفت معهم كثيرا ، لكنهم كانوا أصدقائنا ، كانوا منا وكنا منهم
، لم نكن في حرب ليقتلوا بين ظهرانينا ، لم نمر بكارثة طبيعية لنفقدهم بهذا العدد
، قُتلوا برصاص الغدر في قلوبهم ، أحرقوا ممن لا يملك الحق في إحراقهم ، أي ظلم
وقع بهم على يد قاتلهم فقتلهم ، و أي ظلم أصابهم ممن شاهدوهم يسقطون على الأرض ،
فتهافتوا على أكل لحومهم و التمثيل في أرواحهم وكرامتهم و حقوقهم !! ..
في صباح ذلك اليوم المشئوم ، كنت أستقل حافلة عملي ، على
أثير المذياع أخبرتنا تلك المذيعة القاتلة - و أكرر القاتلة – بقصتها الساخرة السخيفة
عن "القرد الشقي اللي حياخد النهاردة علقة من الأسد ملك الغابة" ، بعدها
بدقائق معدودة ، أعلنت و بفرحة عن قوات الأمن التي بدأت بفض الاعتصام ، وقبل
خروجها في فاصل إخباري أصرت أن تزيد من طعناتها لتقول "مش قلتلكم القرد حياخد
علقة من الأسد النهاردة". لم تلبث الأخبار تنتشر حتى تركنا حافلة عملنا في
منتصف الطريق المغلق. كانت الأجواء مشحونه في منتصف القاهرة ، و العيون زائغة ما
بين جاهل بالأمر و عالم به ، هاتفت أمي لتخبرني أنهم بدأوا في ضرب الأعتصام ، صححت
كلامها أنهم بدأوا في فض الإعتصام ، أكدت لي أنه ليس فضا بل ضربا !!.
كانوا قد بدأوا في القتل ،"حبيبة" كانت في
المقدمة ، قتلتها رصاصة بجوار كاميراتها المتقدمة ، من قتلك حبيبة ؟ رصاصة واحدة
لا تكفي لقتلك سيدتي ، أنت أقوى من ذلك ، من قتلك حبيبة ؟! ، بعدها سقطت أسماء ، وتوالت
الأنباء عن مقتل اخرين ، مصعب و عاصم و سلطان و غيرهم ، من قتل هؤلاء ؟! ، هؤلاء
لا يقتلهم الرصاص ، ولا جبناء يحملون المدافع خوفا منهم !! ، من قتل هؤلاء ؟! ، هنا
تذكرت المذيعة القاتلة ، تذكرتها بكل طعنة قالتها صباحا ، تذكرتها في كل شاشة جعلت
تدلس و تخفي الحقيقة ، في كل صوت خائف جبان صامت ، في كل قلب كاره اتخذ كره واختلافه
حجة للقتل ، تذكرتها في كل من سائه توقف الشوارع والطرقات أكثر من توقف النبض في
قلوب هؤلاء . هؤلاء لم يقتلهم الرصاص ولا الجبناء الذين يحملون مدافعهم خوفا منهم
، هم أضعف من أن يقتلوهم بمفردهم ، إنما قتلتهم طعنات غدر من بيننا ، مما في
البيوت والشوارع من نفوس مريضة ، نفوس اعطت النظام الحق بقتل غيرها لتعيش !! ... قتل
غيرها لتعيش !! ...
لو أرادوا قتل المحرضين لقنصوهم فوق المنصة التي أمطروها
انتقادا كما أمطرناها ، لو كانوا غير مسالمين أو حاملي أسلحة ، لضربوهم في أذرعهم
أو أيديهم و هي تمسك الأسلحة ، لكنهم ما أرادوا إيقاف حجتهم التي بها يقتلون ، هم أرادوا
أن يقتلوا مستقبلا يناصب ماضيهم العداء ، طهرا يكشف فسادهم بجلاء ، شبابا أراد أن
يخلص وطنه من براثينهم ، و ما أعانهم سوانا ، بخلافنا ، و عصبيتنا ، و عنصريتنا ،
و سلبيتنا ، و عبوديتنا ، و جهلنا ، و فقر و مرض قلوبنا ....
هي مرثيتنا لا مرثيتهم ، هي بكائيتنا لا بكائيتهم ، نحن
من متنا وهم من عاشوا ، نحن من رسبنا في اختبار انسانيتنا وهم اجتازوه ، نحن من فشلنا
في التمسك بحريتنا و هم من تشبثوا بها ،
نحن من فشلنا في معرفة ديننا و هم من أدركوه ، نحن من قتلنا الجهل وهم من حاربوه ،
فما كان لهم بيننا مكان ، و هم من اختارهم ربهم لينقذهم من بيننا أو ليريحهم منا
!! ...
أخبرت هذا السائق الخائف من ذكرهم يوما :
"لا تخش إلا الله ، أنا لن أطلب منك أن تترك عملك
لتعتصم معهم ، ولم أطلب منك أن تعلي صوتك لتناصرهم فتلقى الأذية تلقاء ذلك ، كل ما
أطلبه منك هو أضعف الإيمان ، أن ينكر قلبك قتلهم ، فلن يكلفك الله أكثر مما تستطيع
، و لن يُسقط المجرمون أسلحة أو عنف لا يمتلكه سواهم ، لن يُسقطهم سوى رب منتقم
جبار ، لن ينصرنا إلا بصلاح قلوبنا ، كما هزمنا بفسادها !!"
رحم الله من قتل ظلما و غدرا ، و انتقم من كل جبار متكبر
أراد في الأرض علوا ، و هدانا لصلاح نفوسنا ، و إصلاح ما حولها ...
حسبنا الله و نعم الوكيل .. ولا حول ولا قوة إلا بالله
العلي العظيم ...
ش.ز
0 التعليقات:
إرسال تعليق