السبت، 16 أبريل 2011

علاج ماديبا


الحادي عشر من فبراير عام 1990 ، أطلق سراح "ماديبا" ، بعد مرور 27 عاما من فترة سجنه اللانهائية ، بعد أن حُكم عليه بالسجن مدى الحياة بتهمة التخطيط لعمل مسلح والخيانة العظمى ، وهي التهمة الملفقة ، أما التهمة الحقيقية ، هي ترأسه للجناح العسكري للمجلس الإفريقي القومي الداعي للدفاع عن حقوق الأغلبية السوداء في جنوب إفريقيا . ورغم أن "ماديبا" نفسه ، كان داعيا للمقاومة غير المسلحة ضد سياسات التمييز العنصري، لكنه و بعد إطلاق النار على متظاهرين عزل في عام 1960، وإقرار قوانين تحظر الجماعات المضادة للعنصرية، قرر "ماديبا" وزعماء المجلس الإفريقي القومي فتح باب المقاومة المسلحة.

خرج "ماديبا" ، وظن الجميع أنه خارج للثأر من أعدائه ، ولم لا ؟! ، وهو الذي أعلنها في أول خطبة له بعد خروجه أن كفاحه المسلح لم ينتهي بعد ، وأن العوامل التي إستدعت هذا الكفاح لم تزل موجودة إلى اليوم.


ولكنه وعكس المتوقع ، قَبِل ببدأ المفاوضات ، ومع ألد أعدائه ، الحزب الوطني الحاكم !! ، والذي حاول فلوله هدم مساعي رئيسه الجديد والحسن النوايا "فريدريك ويليام دي كليرك" لإنهاء الإحتقان ، وذلك عن طرق إرتكاب المذابح والإغتيالات ، ومحاولة بث الفتنة بين الطرفين ، ولكن هيهات ، ف "ماديبا" لم يسمح لهؤلاء بالنجاح في مخططهم ، و وقف هادئا داعيا الجميع بتحلي الهدوء وقبول الخسائر ، وعدم الإنجرار وراء أشخاص يريدون إفشال المفاوضات ، وإيقاع البلاد في فتنة دموية جديدة.


و استكملت المفاوضات ، وفي شوطها الأخير برز خوف الحزب الحاكم و بعض أعضاء المعارضة من مرتكبي الجرائم من الملاحقة القانونية ، ودب الخلاف مرة أخرى ، بين رغبة البعض في العفو الشامل ، و رفض الآخرين التنازل عن حقوق الضحايا ، وهنا برز مرة أخرى "ماديبا" ، ليقبل تأسيس لجنة للمصالحة والعفو ، تكون لها الصلاحية لإصدار العفو عن من تري أنه قد أماط اللثام عن كامل جرائمه ، أمام من أرتكبها في صالحه ، وأن يكون قد أرتكب جريمته بدافع سياسي ، وليس بدافع شخصي.

كان علاج ماديبا هو العلاج السحري لتتجاوز جنوب افريقيا مرحلة الانتقام من المعتدين ، إلى مواجهتهم ، وكانت هي الطريقة المثلى لإخرج ما في صدور شعبه من الغل والحقد ، و لزرع الرغبة في الحياة والتقدم عوضا عنها.

وبالفعل تقدم آلاف المعتدين بطلبات للعفو و تقدم آلاف المجني عليهم لإدلاء الشهادات ، وأستجاب الكثير والكثير من الأطراف إلى العلاج ، وبدأت جنوب أفريقيا عهدا جديدا ، يرأسها رئيسا جديدا ، هو ماديبا نفسه ، بعد أن طبق علاجه على نفسه أولا ، وعين "دي كليرك" وهو رئيس حكومة الحزب الوطني نائبا أول له !! ، ليؤكد تماما أنه لا يسعى أن يطهر البلاد من المواطنين الفاسدين فقط ، وإنما للتطهيرها من الفساد الذي كان قابعا في قلوب هؤلاء المواطنين.

لم أخف إعجابي بعلاج "ماديبا" ، ولا بقدرته الرائعة على مقاومة تشوه مجتمعِ كان مقبلا على مقابلة العنصرية بمثلها ، بدعوى القصاص ، علاج "ماديبا" (و هي تعني المبجل ، وهو لقب زعيم جنوب أفريقيا "نيلسون مانديلا") ، لم يكن بعيدا عما فعله رسول الإسلام محمد ، حين عفا عن كل من أذوه وآذوا صحابته في فتح مكة ، ليبدأ عصرا جديدا خاليا من الغل أو الحقد ، ولن يكن بعيدا عنا أيضا إن رضينا أن نسامح كل من أهاننا ، وأضاع كرامتنا ، مقابل إعترافه بما أذنب ، عوضا عن ملأ قلوبنا بالرغبة في الإنتقام ، وفتح الجروح ، مما قد يوصلنا إلى إرتكاب الأخطاء بدعوى أخذ الحق و القصاص.

كان من الطبيعي أن يستلم ماديبا جائزة نوبل للسلام ، كرمز للمناضل الذي أوقف الدماء حين قبل بإعتذار أعدائه ، ولم يكن غريبا أيضا أن يشاركه فيها فريدريك ويليام دي كليرك كرمز للعدو الذي وقف معترفا بخطئه ، ورغبته في التطهر منه و طلب العفو.

ش.ز

هناك تعليق واحد:

  1. نموذج ملهم ..

    بس رغم انه حديث عن الواقع ..
    إلا انه أشبه بقصة من المدينة الفاضلة ..
    ويبدو صعب التنفيذ علي النموذج المصري ..

    هذا احساس ، لا أعلم أسبابه !!

    ردحذف