يونيو
٢٠١٠
الإحباط
..
لا
يمكن بأي حال من الأحوال تسمية هذه الأجواء
التي تحيط بنا بغير هذا المسمى ، والسبب
معروف بالطبع ، كأس العالم يقام في أفريقيا
، ومصر، مصر الحضارة الكروية الكبيرة ،
ليست من ضمن الفرق المشاركة فيه !!.
أقف
أمام عربة الفول لأشتري الإفطار قبل ذهابي
إلى العمل ، الجميع ينعي حظنا العاثر ، و
ينعي حياتنا التي ستضيع هباء ونحن في
انتظار أن نرى منتخبنا القومي في ذلك
المحفل الدولي ، ينعي هذا الجيل من اللاعبين
الذين يعرفون الله -
كما
يصفونهم -
والذين
كتبتوا سطور نهاية تاريخهم بعدم الوصول
إلى هذه النهائيات !!
، جلست
أستمع والحسرة تمتزج مع الإحباط بداخلي
، ليس لأني -
وأنا
أحد المتعلمين في وسطهم -
كان لدي
ذات رغبتهم في وصول فريقنا إلى هذه البطولة
، ولكن لأنني اكتشفت عمق وتفحش المرض الذي
وصلنا إليه.
و
لكن ماذا الآن بعد غياب هذا المسكن ،
المنتخب الوطني في ثكناته ، والشعب المصري
مل مُسكنه القديم المتمثل في بطولاته
الأفريقية التي احتكرها ، والدوري الذي
ما عاد علينا أن نلعبه ما دمنا في النهاية
نري فائزا واحدا.
المسكن
انتهى من الأسواق !
، والناس
ولأول مرة منذ زمن بدأوا يكتشفون طعم
الألم ، الصدمة تعلو وجوه الجميع ، ولكنهم
على ثقة من أن طبيبهم الفاسد سيعمل على
امدادهم بالمسكن بعد قليل ، فهكذا كان
يحدث دائما ، يعلنون أن المباريات لن تذاع
ويتدخل طبيبهم كي يعيدها إليهم ، يموت
الآلاف منهم في البحار غرقا ، وفي المساء
يخدرهم طبيبهم ببطولة كروية أفريقية
جديدة ، وهكذا كانوا يظنون أنه سيحدث في
كأس العالم أيضا ، سيتدخل طبيبهم بنفوذه
ليدخل منتخبهم كأس العالم ، ولكن هذا لم
يحدث ، فماذا جرى ، ربما هو خطأ في الإجراءات
، سيأتي المُسكن الآخر بعد قليل ، ربما
في مشاهدة الجزائر وهي تخرج من كأس العالم
على قنواتنا الأرضية (فقد
يشفي غليلنا)
، وربما
في مسلسلات رمضان ، أو التلويح بعلاوة
يتم استردادها بزيادة الأسعار ، هي مسكنات
لا بأس بها أيضا ، ولكنها جميعا -علاوة
على أنها لا تقارن بتأثير المسكن الكروي
-قد
فقدت قدرتها على تخفيف الألم في الوقت
الحاضر، وعلى ما يبدو وللأبد.
كان
المصريون راضون بهذه المقايضة ، فالبعض
كان يرى أن المنتخب سيصعد إلى كأس العالم
كجزء من خطة التوريث ، بل وتمادوا فظنوا
أن منتخبنا سيحرز مركزا متقدما ، ليعود
منتصرا ، فيستقبله الرئيس والأبن ، ويفرح
الناس ويهللون ، ويقبلون بما هو مخطط لهم
، الناس كانوا مستسلمون لقدرهم الأسود
ولكنهم كانوا يحاولون تلوينه ببعض الفرح
. لم
أكن أظن أن مبارك الإبن نفسه كان على ثقة
من وصوله للحكم كثقة بعض الذين كانوا
يرددون على مسامع الناس تلك الإسطوانة
التي تؤكد أن لا مفر لنا منه ، البعض بدأ
يسب ويلعن الشعب وسلبيته التي يراها هي
سبب ما سيحدث من توريث ، ولكنه في الحقيقة
كالأب الذي جعل ينعت ابنه ليل نهار بالفاشل
حتى صدق الإبن كلام أبيه ، وهكذا كان مبارك
الإبن أيضا ، جعل يسمع من أبيه وأمه و
الحاشية المستفيدين من حولهم أنه يصلح
للرئاسة ، حتى صدق هذه الإكذوبة .
كلاهما
الشعب وجمال كانا مخدوعين ، والنتيجة
مهما حاولنا تجميلها كانت في منتهى السلبية
، رئيس مخدوع يرأس مواطنين مخدوعين ،
بمعنى آخر ، تربة خصبة للنهب والسرقة بل
و للإحتلال أيضا !.
أما
أنا فلم يكن يعنيني وصول هذا الإبن للحكم
من عدمه بقدر ما كان يعنيني ما بدأنا في
الوصول إليه من الإنحدار ، ما كان يهمني
هو ما بدأت أراه ليل نهار ، من أناس يأكلون
على موائد القمامة و مرضى يموتون بأمراض
لا يجدون علاجا وفقراء يبيتون في غرفة
واحدة يأكلون فيها وينامون فيها ويقضون
حاجتهم أيضا فيها كما البهائم !
. ما كان
يهمني ازدحام الطرق ولا غياب النظافة ولا
انعدام الذوق العام ، بقدر ما كان يهمني
جهل الناس وقلة تعليمهم وتغييبهم والذي
لا يقل أبدا عن تعذيبهم في السجون .
لم
يعنيني يوما الإزدحام في الطوابير ولا
دفع الرشاوى لإقامة المصالح ولا التمييز
الذي نراه في كل مكان بين الفقير والغني
، بقدر ما الأطفال الذين يبيتون في الشوارع
و يموتون سقوطا في بلاعات المجاري وعلى
أبواب مستشفيات حكومتهم التي تعايرهم
بعلاجهم إن كانوا في الأصل يعالجونهم !.
ما كان يعنيني إن وصل جمال مبارك إلى الحكم ، إن كان سيصلح من كل هذا ، إن كان سيريح من هم مثلي من الأرق اليومي الذي يصيبهم ألما من وجود هذه الأشياء ، أشياء حولي ربما لست أنا المصاب فيها ، ولكن هل ينجو الصحيح في عالم المرضى ؟! ، و كيف لي أن أري كل هذا الفقر والجوع والمرض وعلي أن احتفل باستغنائي أو شبعي أو صحتي دون أن أتصور أن يزرع هذا الأحقاد والضغائن في قلوب غيري ، وأي زرع نزرعه في قلوب المصريين بهذا المنهج المسمم السائر بيننا !! ، أن يبقى الفقراء في منتجعات الفقر ، وأن يذهب الأغنياء إلى منتجعات بالم هليز !!!
ما كان يعنيني من سيحكم بلادنا ما دام يريد إصلاحا ، إصلاحا أساسه الإعتراف بالخطأ ، وإدراك أن أي مشروع فاشل يعني مدير فاشل قبل أن يكون معناه موارد فاشلة ، وما حاجتنا للمدير إذن إن كان يقوم ليل نهار ليلومنا علي ضعفنا و قدراتنا المحدودة ، ما حاجتنا لمدير يلومنا على انجابنا للأطفال !!! ، ما حاجتنا لمدير يلوم الناس على قضاء حاجتهم دون مراعاة لموارد الدولة المحدودة في الصرف الصحي ، ما حاجتنا لمدير لا يعطينا قرشا ويأخذ منا كل أموالنا. أعلم تماما أن من المصريين يحملون من الأمراض في أنفسهم أكثر مما يحملون في أبدانهم ، ولكن الراعي هو المسئول عن رعيته ، هو المسئول عن حمايتها ، سقايتها وأكلها وشربها واستغلالها أحسن الإستغلال وإخراج كل طاقتها أيضا ، فإن لم يفعل فما حاجة الرعية لمثل هذا الراعي الذي آثر السلامة والراحة حتى بلغ منه الأمر أنه استأمن الذئاب علينا !!.
لم
يكن انكار كل المسئولين لهذه الفواجع في
بلدنا إلا دافع لأمثالي أن يزيد احباطهم
، بل ودافعا شديدا للإبتعاد وترك البلاد
، قلت يوما لأمي أني لن أحتمل البقاء طوال
حياتي يحكمني هؤلاء المباركيون ، لم يكن
المقصود شخص جمال ولكن سياستهم الغبية
والأمنية والتي تعامل المصريين كهمج
وبهائم وليسوا صناع حضارة.
والمؤلم
أن بعض المصريين صدقوا ما ادعو عليهم
فجعلوا يدخلون في طاحونة البحث عن الطعام
والمال والزواج والبحث عن الموت الغير
مهين في النهاية ، أما الحياة الكريمة
(بالكرامة
أعني)
فلم تكن
تساوي لدي البعض ألف من أورق النقد تزيد
في رواتبهم ، وفي سبيل ذلك قد يقبولوا
بالإهانة في كل شئ بداية من أعمالهم حتي
معاملاتهم الشخصية.
أدمن
معظم المصريون الإستهلاك ولم يفطنوا إلى
أنه سجنهم الذي أغلقوه على أنفسهم ، و
توقفوا عن الإنتاج مضطرين تارة و مختارين
تارة عندما خصصوا مصانعهم ولوحوا لبعضهم
بالكثير من الأموال كي يتركوا ما كانوا
يصنعون بأيديهم إلي ما يستهلكون بأموالهم
، كل الأسلحة سلبت من أيدي المصريين ، ولم
يبق لهم سوى الدعاء والصبر.
"الوضع
هنا قمة في التعقيد"
هكذا
أخبرت صديقي الذي لم يجد سبيلا لنيل العلم
في بلاده فقرر تحصيله من خارجها ، كان
يحدثني -بعقلية
خلت كثيرا من التأثر بما يحدث داخل فقاعتنا
الملوثة-
عن
قدرتنا على التغيير ، وما يفعله الغربيون
للضغط على حكوماتهم وحكامهم ليفعلوا ما
يريدون ، لم أنكر عليه كلامه ، ولكنني
أحببت أن ألقي نظريته على أرض الواقع .
"الوضع
هنا قمة في التعقيد ، وكل القنوات المتاحة
للضغط على هؤلاء الممسكين بزمام الأمور
تم اعطابها ، مصر مريضة جدا ، والمصريون
في قمة المرض ، إن لم يكونوا قد أدركهم
الموت ، وما نفعله هنا نحن الصابرون ، هو
محاولة التخفيف عن هذا المريض وتهدأته
من الألم ، المريض في حاجة لجراحة عاجلة
، وما تريده هو بالفعل الجراحة التي يريد
، ولكن فكر معي ، هل يمكنك ادخال مريض إلى
غرفة العمليات هو يولول صارخا من الألم
!!"
"أعرف
أن العملية ليست بالمستحيلة ، ولكنها
بوضع المصريين الحالي أشبه بالإنتحار ،
المصريون جاهلون ، تائهون ، مغيبون ،
منقسمون ، يخافون من الوهم ، المصريون
ابتعدوا عن دينهم الحقيقي ، وانشغلوا
بمجرد دين ظاهري يقاس بلبس الحجاب وتربية
اللحى ، المصريون منشغلون بكسب قوتهم ،
ومحاولة التكيف على أوضاع أشبه بالموت ،
فمنهم من فسد مجاراة لما يراه من حوله ،
ومنهم من بات يقتل نفسه وهو يظن أن هذا هو
الرضى الذي طالبه الله به ، وهو في الحقيقة
كمن يبنى لنفسه قبرا ويردمه عليه"
قال
صديقي مستغربا نبرة حديثي :
"يأس
وإحباط"
رددت
منكرا:
"بل
واقعا علينا دراسته كي نجد الحل ، أنت
خرجت لتتعلم وتأتي بالنظريات سهلة التطبيق
على الورق ، أما الواقع قد لا يسمح لك
بتطبيقها بهذه السهولة !
"
قال
:
"والحل
؟!"
قلت:
"لقد
أسمعت إن ناديت حيا ، ولكن لا حياة لمن
تنادي ، أنت في الحقيقة تنادي أمواتا ،
معظم المصريون هنا قد مات فيهم ما تناديه
أنت بهذه الدعوات ، ربما ستجد القليل من
أمثالنا نجتمع سويا لنتحدث بلغتنا التي
نفهمها ، ولكن لن تجد لهذه الدعوة الصدى
الواسع الذي تريد"
قال:
"ألا
تري بأنك تغلق أبواب الأمل !!"
قلت
:
"صدقني
على العكس ، أنا أحاول إيجاد أمل ليس
بزائف !"
قال
:
"أعود
وأسأل ، وما الحل ؟!"
قلت
ضاحكا :
"الإدرينالين
!!"
استغرب
فأوضحت :
"الحل
هو الإدرينالين ، أن نتوقف عن تلك المحاولات
الفاشلة لإصلاح القنوات المعطوبة ، بل
على العكس ، سنعمل على سدها ، أن نتوقف عن
تخفيف ألم المريض ، بل ونفسد كل الأنابيب
التي تمده بالحياة ليستشعر الموت ، حينها
وحينها فقط سيأتي الإدرينالين ليعمل علي
تنبيه كل أجزاء الجسد في محاولة لإيقاظها
وهنا تطلق أنت دعوتك !!"
نظر
إلي كمن ينظر إلى مجنون ، فأكملت:
"هذا
هو الحل ، إن كان الحياة قد انتهت لمن
ننادي فعلينا نبش قبورهم ، إحيائهم في
البداية ، و عندئذ تصبح نظريتك سهلة
التطبيق"
بدأ
يفهم فأجابني :
"هذا
ما أردت قوله منذ البداية ، فما المشكلة
إذن ؟!
"
رددت
مسرعا:
"المشكلة
أننا حينها سنكون على وشك ثورة !!"
"تورة
جسد يقاوم مقاومته الأخيرة للحياة ، ثورة
ربما تميت هذا الجسد وللأبد ولا تحييه
كما نظن !!"
قال
:
"عدت
لليأس مرة أخرى"
قلت:
"لا
ولكنها الحقيقة ، أنا رأيت بعيني كيف بات
المصريون يقتلون بعضهم من أجل كيس يمتلئ
ببعض الطعام ، الجوع والفقر يا صديقي
يغيرون الكثير ، فما بالك إن إن حملنا
مجتمعين هؤلاء القوم وطالبناهم بأخذ
حقوقهم ، هل تراهم سيُفرقون ؟!"
"ربما
تصبح ثورة جياع تأكل الأخضر واليابس ولا
تفرق بين شريف وفاسد ، وقد تهدم أكثر مما
تبني !"
قال
:
"فلنكن
في الطليعة إذن لننظمها "
قلت:
"هو
أمر محل نقاش ،ولكنه غير مأمون العواقب
، فاليوم ستجد خلفك المئات و في الغد لن
تجد إلا العشرات الصامدون ممن رفضوا
مقايضة فكرتك بالمال"
قال:
"ربما
يستطيعوا رشوة المئات ، ولكنهم لن يستطيعوا
رشوة الملايين "
قلت:
"أصبت
ولكن العدد غير كاف للحفاظ على فكرتك"
"الشك
مرض يملأ المصريين"
"نريد
عددا"
"نريد
فكرة يجتمع عليها هذا العدد"
"نريد
أملا"
"وقبل
كل هذا ، نريد ما يستطيع نبش قبور كل هؤلاء
الملايين"
أنهينا
عصفنا الفكري المعتاد ، أخبرته ساخرا
أننا وصلنا لنظرية أخرى قد تحتاج لنظرية
غيرها لتنفيذها !!
، ابتسمنا
، دعونا الله أن يكتب لبلادنا أمر رشد ،
لم نكن نعرف حينها أن نبش القبور الذي
جعلنا نتحدث عنه قد بدأ بالفعل ، ومنذ مدة
!!
يتبع
في عمرنا ثورة : نبش القبور (٢)
ش.ز
0 التعليقات:
إرسال تعليق