الخميس، 9 أغسطس 2012

رمضات ٢٠ : أولم تؤمن ؟! ..


وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
البقرة ٢٦٠



للوهلة الأولى قد تستغرب سؤال ابراهيم لربه ، وقد تستغرب استجابة ربه إليه ، ولكنك إن قارنت بين سؤال ابراهيم وسؤال من تبعه ممن وصلت إليهم رسالة الإيمان والبعث فيما بعد ، ستعرف أن ابراهيم كان مؤمنا موقنا ولكنه أراد الإستزادة في العلم والمعاينة لإقرار يقين استقر في قلبه ليس إلا !.

قال تعالى:

وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا٤٩ قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا٥٠ أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا٥١
الإسراء


فحين أخبر المصطفى قومه بأنهم مبعوثون بعد مماتهم سألوه متهكمين متكبرين "من يعيدنا؟!" ، لم يسألوه عن كيفية الإعادة ، ولكنهم سألوه عن الفاعل ، فمن لا يستطيع أن يطعن في الفعل يبحث دائما للطعن في الفاعل !.


قال ابن عاشور التونسي في تفسيره :

فقد جعلوا سؤالهم (من يعيدنا)؟ ، جعل سؤالهم هنا عن المعيد لا عن أصل الإعادة لأن البحث عن المعيد أدخل من الاستحالة من البحث عن اصل الإعادة ، فهو بمنزلة الجواب بالتسليم الجدلي بعد الجواب بالمنع، فإنهم نفوا إمكان إحياء الموتى ، ثم انتقلوا إلى التسليم الجدلي ، لأن التسليم الجدلي أقوى في معارضة الدعوى من المنع”

فقد قاوموا التغيير ، ولم يستسلموا لفهم منطق البعث ، وإن ارادوا أن يفهموا أو أن يستزيدوا علما لأجابهم الله ، لكنهم رفضوا الفكرة و بدأوا في السؤال عن فاعلها للطعن فيه كمن يقول "وإن حدث المستحيل فلابد أن فاعله ساحر" !!

يقول طارق سويدان :

ضعيف الحجة لا يناقش الأفكار والآراء ، بل يطعن في صاحب الفكرة ، وهذه طريقة معروفة في علم مقاومة التغيير والمصيبة عندما تستعمل باسم الدين ”

فقوي الحجة ليس من يسأل عن صاحب الفكرة أو فاعلها ، وإنما من يسأل عن الفكرة ليفهمها ويدرك ملامحها بل ويستزيد منها ، فإن كانت الحق ثبت عليه ، وإن كانت الباطل ضحده بفكر مماثل.

وهكذا فعل ابراهيم ، ومن قبله صاحب القرية التي مر عليها وهي خاوية على عروشها فتساءل قائلا "أنى يحيي هذه الله بعد موتها" ، لاحظ أنه لم ينكر هنا قدرة الله في سؤاله ، وإنما تعجب من الكيفية ، وأراد أن يعرف ، أراد أن يري التجربة رؤى العين ، أراد أن يلمس نور الشمعة الموقدة ولم يكتف بنورها وحرارتها التي يشعر بها ، رغبة منه في معاينة حقيقته ، فكان له ما أراد ، فأماته الله مائة عام ثم بعثه ، ليرى بعينيه بعث حماره الذي تحلل وتفسخت أنسجته وتفككت عظامه ، و ليعاين التجربة في نفسه وبنفسه!.

هكذا فعل ابراهيم ، وسأل ربه أن يريه احدى أسراره ، وهي بعث الموتى ، أراد ابراهيم أن أن يلمس نور الشمعة ويعاينه ، ولم يكتفي بمجرد الشعور الكافي بحرارتها ، فأراه ربه ما أراد في تجربة فريدة تشبه سابقتها ، رأى طيورا قطعها بيده تعود إليه بمجرد مناداته لها ، رأي السر ولكنه لم يدرك طبيعته أو يفهمه ، لأنه ظل شأنا إلهيا لا يعلمه سواه سبحانه.

يقول سيد قطب في ظلال القرآن :

رأى إبراهيم هذا السر يقع بين يديه . . طيور فارقتها الحياة , وتفرقت مزقها في أماكن متباعدة . تدب فيها الحياة مرة أخرى , وتعود إليه سعيا !

كيف ؟ هذا هو السر الذي يعلو على التكوين البشري إدراكه . إنه قد يراه كما رآه إبراهيم . وقد يصدق به كما يصدق به كل مؤمن . ولكنه لا يدرك طبيعته ولا يعرف طريقته . إنه من أمر الله . والناس لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء . وهو لم يشأ أن يحيطوا بهذا الطرف من علمه , لأنه أكبر منهم , وطبيعته غير طبيعتهم . ولا حاجة لهم به في خلافتهم .

إنه الشأن الخاص للخالق . الذي لا تتطاول إليه اعناق المخلوقين . فإذا تطاولت لم تجد إلا الستر المسدل على السر المحجوب . وضاعت الجهود سدى , جهود من لا يترك الغيب المحجوب لعلام الغيوب ! ”

فانظر حولك لتدرك كم منا آمن بالشئ فسأل عنه قبل أن يسأل عن فاعله؟! ، كم منا آمن بالحرية فشغله تنفيذها أكثر من شغله بمنفذها ؟! ، كم منا آمن بالعدل فسعي لتحقيقه أكثر من سعيه وراء من يحققه ؟! ، كم منا آمن بالحق ولم يحيده عنه ذهابه إلى من يكره ؟! . إبراهيم آمن ببعث ربه ، آمن بالفعل الذي دله على عظمة الخالق ، فصار سؤاله عن الخالق عبثا لا يصح ، فكان سؤاله شوقا لمعرفة سرا من أسرار هذا الخالق العظيم ، وليطمئن قلبه إلى ما استقر إليه بالفعل ومنذ زمن !.

فسبحان من يطمئن قلوب عباده المشتاقين إلى نوره ، ويسقط في أيد المتشككين في ربوبيته بإعجاز آياته.

تحياتي
ش.ز

0 التعليقات:

إرسال تعليق