كنتُ في الرابعة عشر من عمري في ذلك الحين ، يومها استيقظت مبكرا قبل أن يصحو الجميع ، اتجهت إلي المطبخ خلسةً لأُعدّ شايا كنت أسير على خُطى إدمانه بخفة مراهقة ذلك العمر الصغير ، كانت جميع محاولات أبي وأمي قد استنفذت لإيقافي عن هذا الطريق ، كما توقفت أيضا محاولاتهم لعرقلتي و تعكيره بقليلٍ من اللبن ، بعدما وقفت صارما ومراوغا أمام جميع هذه المحاولات ، ليس لكرهي للبن كما كانوا يظنون ، ولكن لأني كنت أرفض اختلاط الأشياء ، فقد كنت ذو ذوق أضعف من أن يتفهم هذا الاختلاط ، بل كنت أتعجب ممن يستطيعون فهمه وإدراكه. لم أر في زهدي لهذا الخلط أبدا ميزة بنفسي ، لكنّي عدوته ضعفا وكسلا بعقلي وقلبي ينذر بالأسوء في المستقبل القادم !!
كان الماء فد فاق غليانه وأنا أفكر في يومي
الدراسي القادم ، كان يوما مختلفا ، ففيه الحصة الرياضية الإسبوعية ، ومعناه أن عليّ اصطحاب ردائي الرياضيُ إلي
المدرسة ، جعلت أذكّر نفسي بذلك وأنا أفرغُ مظروفَ الشاي من محتواه في الكوبِ
الفارغ ، وأضيفُ إليه معلقتين من السكر قبل أن ألتفت مسرعا لأمسك ذراع البراد
الساخنة بخرقة قماش قديمة تمنع عني حرارتها ، صببت الماء بثقةٍ ونشوة بخارية تصاعدت
لتلامس عدسات نظارتي الطبية. لحظاتٌ منعت عني هذه الشبورة المائية الرؤية تماما ،
لكنها لم تمنع أذني من سماع تلك "الطقة" المكتومة التي تسربت إليها من
ناحية كوب الشاي ، وقبل أن ينقشع ضباب الأبخرة ، وقبل أن تجيب عيني استفهام عقلي
عن سر هذا الصوت الغريب ، كانت الإجابة قد لامست ركبتي اليسرى بماء الشاي الذي
يغلي و قد سقط عليها ، لم يستطع عقلي استيعاب الإجابة القاسية فأهمل تحكمه في يدي
حاملة البراد الملتهب ، والتي أفلتت البراد ليكمل إجابته على ذات الركبة وكأنها لم
تفهم اجابته الأولى . كل شئ في عيني قد انقلب على نحو عجيب ، صرخاتي جعلت أكتمها
لسبب مجهول لا أعلمه إلى الآن ، جعلت أضرب الأرض بقدمي الأخرى ممسكا بركبتي
المصابة بقوة ، أفاق عقلي ليحاول أن يسأل عن موقع الكوب الذي وقع منه هذا الماء ،
رفعت عيني كمن يبحث عمّن طعنه ليسترحمه ، فإذا بالكوب قد استقر فوق الطاولة منفلقا
إلي نصفين ، كل نصف يجلس مندهشا : أهو القاتل ، أم المقتول ؟!
أما ما لحق ذاك فهو الأعجب ، فرغم ما حملته من
كل مشاعر الألم في هذه اللحظة ، غير أنه لم يؤلمني أكثر من اختلاط مشاعري حينها ،
كان علي وببساطة أن أصرخ ليجتمع حولي كل من في البيت ليعينونني على ما أنا فيه ،
لكنني ولأسباب مختلطة ، قررت أن أكتم الآمي ، وأن أقف لأزيل الفوضى التي سببتها
حادثتي ، وأسرع إلي غرفتي لألبس لباس مدرستي كاتما تحته ما أصابي من حرق في ركبتي
اليسرى !! . تجاسرت على قدمي ووجهي ليخفي كل منهما أثر آلمي عليه ، وإمعانا في
تجسيد شخصية السليم المعافى ، سألت أمي وبصوت عال عن ردائي الرياضي لأحمله معي
لأجل حصتي الرياضية ، ركبت سيارة أبي استمع لنبضات قلبي تضرب ركبتي اليسرى ، كنت أجاهد
لتنظيم أنفاسي ، الألم يصاحبني ولا يفارقني ، وأنا أحتمله كمن يستلذ به ، عقلي
وإلي هذه اللحظة لم يستطيع فهم تصرفي ؟! ، هل أحب مدرستي ولا أريد التغيب عنها إلي
هذه الدرجة ؟! ، أم أن رغبتي في حضور حصتي الرياضية أيا كان السبب هي المشكلة ؟! ،
أم أن خوفي من تأنيب أبي و أمي أو قلقهم عليّ هو السبب ؟! ، أم أنني أردت أن يستمر
يومنا الأسري ويستقر على قضبانه الثابتة دون أي اضطراب يصيبه ؟! ، لا أدري ، كل ما
فعلته حينها كان تفاعلا لا إراديا ، لم يكن عقلي متحكما فيه ، ولم يكن قلبي يملك
من المشاعر ما يوصله إليه ، تمتمت بداخلي متسائلا : رباه ، ما الذي يجعلني أحتمل
كل هذا الألم ؟ ، انتظرت الأجابة لأتخذ قراري ، لكنها لم تأت !!
في المدرسة لم أتوقف عن الكتمان ، ولكنني أطلقت
العنان لوجهي وقدمي أن يتأثرا بما أصابني ، أدرك جميع من بالمدرسة ما بي ، حاولت
شرح المسألة لهم كصدمة أصابتني خلال سيري ، استعذبت شفقتهم عليّ ، ورغم انحسار شدة
الألم عني ، إلا أنني أبقيت أثر الألم الأول على وجهي !! ، أتراها الشفقة التي
تنقصني هي التي أتت بي إلى هنا ؟! ، آتراني أردت أن يرثى الجميع لحالي ؟!، أو أن
تلفت إصابتي أنظارهم إليّ ؟! ، تبا لقلبي المريض ؟! ، لُمت نفسي منتفضا ، وبدأت
رحلة التجاهل لنسيان جرحي ، وانهمك عقلي المنهك في توزيع اهتماماته على بقية أرجاء
جسدي ، تاركا يدي تتحسس وبرفق ألمها الملتهب بجوار ركبتي المصابة !!
في حصتي الأخيرة ، وهي الحصة الرياضية المنتظرة
، كنت قد اعتدت الألم ، اتخذت قراري أن ألبس ردائي الرياضي ، وأن أشارك أصدقائي
اللعب رغم ما بي ، كنت عنيدا ، وقد رأيت في اللعب وما يصحبه من جهد ما قد يزيد
ضربات قلبي ، فيزيد من تردد الألم ، فما كان يزعجني وجوده بقدر ما كان يؤلمني
عودته بعد الغياب . بدلت ملابسي مترفقا ، لم أنظر حتي إلي الجرح كي لا يصيبني
الفزع ، أثارني ملمس فقاعة مائية منتفخة فوقه ، و بقايا أخري قد انفجرت فأخرجت
مائها تاركة آثار رطوبة منتشرة ، عدت إلي الملعب مسرعا كمن ليس به ألم ، خلعت
نظارتي الطبية ، فزاد ذلك من زيغ بصري ، نسيت كل شئ مع علو صياح الجميع : فلنلعب
الكرة !!!
لم يكن اللعب سهلا كما كنت أظن ، فقد كان
لاحتكاك ملابسي بالجرح أثرٌ موجعٌ كبير ، حاولت التجاسر ورغبت به ، ولكن العجز قد
هزم الرغبة في ذلك الحين ، حاولت التراجع والتحرك في حدود قدرتي ، طلبت ممن
يشاركونني اللعب أن أقف حارسا للمرمى كي أقلل من تحركي ، كنت كمن يملك عقلين وقلب
واحد ، وكان عليه أن يرغمهم جميعا أن يعملوا في وقت واحد ، كل فيما ينشغل به ، كنت
ناجحا وإلي حد كبير ، قلبٌ مستقرا عند جرحي ، و عقلٌ يحاول أن يدبر له الأمور ،
وعقل آخر منشغل بمتابعة الكرة ، فجأة تضاربت مصالح العقلين والتقيا في نقطة واحدة
، حين اتجهت الكرة نحو موقعٍ قريبٍ من قدمي اليسرى المصابة ، وكان أمر عقلي الأول
أن ابتعد عنها كي لا تصيب ركبتي ، أما عقلي الآخر فقد قرر أن يتجه نحوها ليمنعها
من دخول المرمى وبمساعدة ركبتي اليسرى !!! ، الصراع انتقل مرغما إلي قلبي الذي صار
هدفا لضغوط العقلين ، تحرّكت ركبتي المرتعشة نحو الكرة بين دفعة من عقل وجذبة من
آخر ، اصطدمت بقوة في الكرة في لحظة فقد فيها كلا العقلين السيطرة عليها وامتلكها
الألم ، فصارت كالريشة التي لم تحتمل دفعة الكرة لها ، فاستسلمت وجاورتها بداخل
المرمى ، أما أنا فسقطت فاقدا أي قدرة على الحركة ، أو التنفس ، أو النطق !!
ابتعدت عن الملعب مرغما ، فلم يغفر لي الجميع
ضعفي في مواجهة الكرة ، ولم يتفهم أحدهم ألما قد تفننت في كتمه عنهم ، جلست على
أطراف الملعب دامع العين ، مهزوما ، لم أستطع أن أفوز بأي شئ في ذلك اليوم ، لم
يكن يوما هادئا كما أردت ، ولم ألعب الكرة هانئا كما رغبت ، وحتى الألم الذي يبدو
أني انتصرت عليه وكتمته عن الجميع ، فها هو يخذلني في كل موقع ، ويحبسني صامتا
أمام الجميع . لا أدري لماذا تذكرت أمي وأبي في هذه اللحظة ، أردت أن أعود إلى
البيت مسرعا لأصرخ عاليا كي يزيلوا عني هذه الألام . قمت متجاسرا لأبدل ملابسي ،
وقفت أمام المرآة لأغسل وجهي ولأمحو الألم عن تجاعيده ، حملت حقيبتي ، و ربت على
جرحي ، أخبرته في نفسي أنه عن قريب ستتحسن الأمور !! .
شئ ما بصدري جعلني أكمل مسرحيتي ، شئ ما جعلني
لا أشعر بأي ألم في ساقي ، شئ ما جعل جرح نفسي يبحث عن طريقة للاعتراف بالخطأ ، والاعتراف
بالكبر والهزيمة ، شئ ما جعلني أذهب إلي سيارة أبي صامتا لا يبدو علي أي ألم عضوي
، حمدت الله حين سألني عن حالي ، و ساعدني إرهاق اليوم الرياضي المتوقع على إخفاء
تألم وجهي وأحمرار عيني ، في الطريق كنت أبحث عن طريقة لأشرح بها حالي ، أحيانا
تعجز الكلمات عن شرح ما تراكمت عليه المشكلات ، أين سبب ما حدث إذن ؟؟، من أين
أبدأ ؟! ، أين الخطأ ؟! ، وأين المخطئ ؟! ، أين السبب وأين النتيجة ، كان خطأي
وكان علي احتماله ، والآن علي أن أحتمل ألم العلاج كما احتملت ألم الجرح ، دخلت
المنزل مسرعا ، بدأت في تبديل ملابسي ، بعد لحظات اقتربت من أبي مترددا ، كشفت له
ركبتي ليرى ما أصابها ؟!
كان الجلد قد احتال غامق اللون ، منكمشا ، وميتا
، يلتصق بلحم وردي اللون ملتهبا يختفي من ورائه ، المسام منفتحةٌ وكأنني أشعر
بتنفسها ودخول الهواء من خلالها . كنت أتوقع غضبة أبي وكنت مستعدا لمواجهتها ،
لكنه كان فارسا ، فلم يكن ليغضب على من أصابه ما يراه !! . سألني إن كان هذا من
لعب الكرة ؟! ، فأجبته أن لا ، "فكيف حدث هذا ؟!" ، سؤال سأله وحمدّت له
أن لم ينتظر الإجابة ، فكان همّه الآن إسعافي وفقط . ظللت صامتا وأنا أراه يمسك
مقصا طبيا ويبدأ في إزالة الجلد الميت الملتصق ، كان وجهي يعلوه انكسار رهيب ،
أردت البكاء ولكنني منعت نفسي ، الذنب في حق نفسي يحيطني ويكفيني ليخدرني تماما
عما كان يفعله أبي بجرحي !! ، دون إرادة بدأت في سرد الأحداث له ، توقعت لوما ،
فلم أجد ، أحيانا يؤلمك رفق من يحبونك بك ، خاصة إن كنت تعلم أن جرحك قد أصابهم
بالألم أيضا ، أحيانا يصبح مسامحتهم لك ، هي عين العقاب !! . كان أبي في ذلك اليوم
أطيب إنسان أراه في حياتي ، كان كمن يطبب نفسه مترفقا من جرح قد أصبته به ، شعرت
وكأنه يخبرني وبدون حديث أن ما أصابني ومشاعري المرتبكة و اضطرابها ليس غريبا ، بل
ربما أصابته هو أيضا يوما من الأيام ، كانت نظراته المتفهمة مرهما لروحي المتألمة
لجرح كبريائها ، كذلك المرهم الذي بدأ في وضعه علي جرحي ليخفف من التهابه ، أخبرته
بأني حزين لفعلي هذا ، وأنني لم أقصد ما فعلت ، أخبرني : "ومن يقصد ، كفاك ما
تألمت" ، سألته وهو يضع لمساته الأخيرة على جرحي ليضمده ، "تراه سيترك
أثرا ؟!" ، قال لي بابتسامة يعلوها الهم : "مجرد خط صغير ، لعلك تتذكر
به ما فعلت" .
على سريري وفي نهاية هذا اليوم وضعت جسدي منهكا
، كنت قد استُنفذت نفسيا وبشكل رهيب ، كنت قد استقبلت فيه - مرغما - الكثير من المشاعر
المختلطة في آن واحد ، كان لي الإختيار أن أبتعد عن اختلاط الشاي بقليل من اللبن
كما ذكرت آنفا ، ولكن من ذا سيمنحني الإختيار في البعد عن اختلاط هذه المشاعر
بداخلي . للأسف لم أنجح في هذا اليوم أن أجد سببا حقيقيا لما فعلت ، كان غباء ،
كان عندا ، كان خوفا ، كان رغبة ، كان شيئا عجيبا لا هية له مكونا من كل هؤلاء ،
النتيجة هي جرح ذو أثر في جسدك ، وذو أثر أكبر في نفسك التي أدركت احتمال اندفاع
تلك المشاعر وبقوة فيها ، لا أستطيع أن أجزم أني قد وعيت الدرس كاملا ، فأنا لم
أفهم الدرس أصلا ، لم يساعدني على مرور هذا اليوم سوى رحمة أبي و رفقه بحالي ،
واكتفائه بالتجربة عقابا لي ، كان علي أن أتغير ، وعلى الأقل أن أحتاط لاندماج هذه
المشاعر بداخلي و هو ما لا أستطيع احتماله على الإطلاق ، بالطبع لن أترك الشاي ولا
إدماني له على أيه حال ، ولكنني سأمنع نفسي من الإستمتاع بشبورة مائه الساخن على
نظارتي الطبية ، لتظل عيني يقظة لما قد يأتي ، ربما تلك خطوة أولي جيدة !!
النهاية
0 التعليقات:
إرسال تعليق