
ما أن توالت النتائج الأولية للإستفتاء... إلا وبدأ الجميع في توقع النتيجة ... الكفة مائلة نحو المؤيدون للتعديلات ... ولأول مرة بلا شك في نزاهة النتيجة ... أو تزويرها ... وإن كان إتفاق الجميع على بعض الأخطاء التي يجب تلافيها في المستقبل ..
مشاركة هذا العدد الضخم في الاستفتاء كانت ضمانة حقيقية ... كانت سدا أمام أي إتهام لأحد بقدرته على الحشد والتضليل ... وإن كان إتهامه له هو إعتراف بقدرة إن كانت لديه لاستحق الفوز ...
وهنا آلمني ما تبادر على سمعي من أحدهم حينما بدأ يعلم إتجاه نتيجة الاستفتاء ... حين قال "هذا يدل على أن الشعب المصري جاهل !!!" ...
كنت قد استفتيت ب "نعم" .. وكان علي أن أغير وجهة نظره فيمن قال نعم ... وأعلمه أن منهم من هم أكثر منه علما ... ولم أقصد نفسي بالطبع ... وإنما ضربت له مثلا ب"فهمي هويدي" المفكر الكبير ...
كنت أتفهم ما يقصد ... وأن الجهلة في نظره هؤلاء الذين إنساقوا وراء بعض الدعوات الدينية دون التفكير في معنا حقيقي لاختياراتهم ... أو الذين قالوا نعم لأجل إستقرار يتوقون إليه دون أن يفهموا أن إستقرار سريع ربما يفسد على البلاد وثورتها الحرة الأمر كله ...
كنت أتفهم قصده .. ولكنني لم أكن تعجبني نظرة التعالي والوصاية على هذا الصنف من الشعب حتى و إن كان جاهلا ... هؤلاء الفقراء والمهمشين ... الذين وجدوا أنفسهم ولأول مرة أمام مائدة الديمقراطية ... مملؤة بما لذ وطاب من أطعمة الحرية ... حقهم الذين طالما نادينا لهم به ... بعد أن كان يرمى لهم ولنا ما بقي على هذه المائدة ... ماذا تتصور أن يفعلوا ؟! .. بالطبع سيبدأون في الأكل ولن يفرقوا بين طعام أساسي عليهم بأكله أو بين مشهيات ليست سوى لإشباع مؤقت ... هؤلاء .. وهم يمثلون نسبة لا يمكن تجاهلها على الإطلاق .. لا زالوا وإلى الآن يختبرون تلك الحقيقة ... لم يصدقوا أن هذه المائدة ستكون لهم لسنوات عديدة .. هم يظنون أنها فتحت لهم صدفة ... ولن يصدقوا إلا إذا استمرت أمامهم وكررت الدعوة لهم مرات ومرات ... حينها .. وحينها فقط ..سيبدأون في التروي والتفكير ... حينها وحينها فقط .. سيبدأون في تأمل المائدة ومعرفة أولويات الأكل عليها ...
كاد يفتك بي حينما قلت له أن من أسباب تصويتي ب"نعم" .. هو إنحيازي لهؤلاء .. ورغبة مني في إشباع قلوبهم وعقولهم من الحرية ... إشباعها من القدرة على التأثير ... حاولت أن أبرهن له ذلك بموقفي مع أحد الباعة الجائلين ... الذي سألني بعد الخروج من لجنة الاستفتاء عما صوّت له ...
فأخبرته بأني قد صوّت بنعم ... فنظر إلي مستغربا ... أعرب عن تعجبه لإختياري ... حيث أنه سأل الكثير من المتعلمين فأخبروه بأن اختيارهم كان "لا" ... وكان يخشى أن جهله قد جعله يصوّت للإختيار الخطأ ... طمأنته أن لا خطا ولا صواب في هذا الإستفتاء .. وأن هذا هو إختيار للطريق الذي نسير فيه ليس أكثر ... وأنك إن إخترت نعم مثلي (وكم كان يشعر بالفخر أنه قال مثلي) فمعناه أنك أنبت عضو البرلمان في إختيار اللجنة التأسيسية للدستور ... وإن إخترت لا ... فأنت من ستختار اللجنة التأسيسية بنفسك ...
لا أستطيع وصف سعادة هذا المواطن (الجاهل في نظر البعض) بما فهمه مني .. وأحسست بذلك عندما بدأ يشرح ما قلت له لغيره ممن حوله ...
هنا تأكدت مما قلته في مقالتي السابقة عن بُعد النخبة السياسية عن الناس ... وعدم قدرتهم على تبسيط الأمور لهؤلاء المهمشين ... فما كان منهم إلا أن استسلموا لتفسيرات دينية لا ناقة لها ولا جمل في هذه التعديلات .. في غياب واضح لصوت عقلاني متواضع يبسط عليهم الأمور ويجعلها في نصابها الصحيح ...
أكاد أجزم أن الفقراء والمهمشين والجهلة (في نظر البعض) .. هم القوة الأساسية في هذه البلاد .. ولن ينجح أحد سواء في إنتخابات برلمانية أو رئاسية إلا إن هبط على أرضهم وتكلم معهم وبلغتهم التي يفهمون ... دينية كانت ... عقلية كانت ... عاطفية كانت ... وأي تعالٍ على هذه الطبقة .. أو محاولة للوصاية عليها والعمل بالنيابة عنها لا من أجلها ... بدعوى العلم أو بدعوى التضحيات السابقة ... لن يؤدي إلا إلى الإنسياق وراء معتقداتهم ومن يداعبها بكلمات دينية سليمة كانت أو مضللة ...
ش.ز
0 التعليقات:
إرسال تعليق