كنت اجلس في الميكروباص ، وأنا أحمل جريدة لأقرأها ، وما أن انتهيت ، حتى استأذنني هذا الرجل البسيط الذي كان يجلس جواري أن يقرأ الجريدة ، فناولته إياها ، فإذ به يقلب صفحاتها ، ويدور عينيه في جنباتها يمينا ويسارا ، ثم يعيدها إلى صفحتها الأولى ليسألني : "هيه فين مقالة الراجل أبو شنب الل كان بيكتبها هنا" ، ابتسمت حينها ، ولكنها كانت ابتسامة محبطة ، ورددت عليه :"لأ ده أقفلولوا الجرنال خلاص ، ده جرنال تاني" ، رد عاليا متأففا :"حتى ده ، الله يخرب بيوتهم " ، وكأن الله قد استجاب !!.
أبو شنب كان هو ذلك العتي الذي لم يصمت عندما صمت الجميع ، أبو شنب هو الذي قال لنا "هاجموا السيد الرئيس" ، و قال للرئيس نفسه "إنك ميت" ، هو سبارتاكوس الذي أشعر الناس بأنهم يقدرون ، مجرد القدرة على الهرب من هذا السجن الكبير ، والعزوف عن فتات الطعام الذي يلقيه إليهم حراسه ، سبارتاكوس الذي لم يكن له هدف في الحياة سوى إعلاء هذا الشعور ، كان يستطيع الهروب بمفرده ، لكنه أبى أن يبرح مكانه دونهم.
أبو شنب لم يكن يملك حينها أية أسلحة سوى قلمه القاسي ، وصوته العالي ، وسخريته اللاذعة ، أضف إليها حمالته الحمراء ونظارته السوداء بالإضافة إلى شنبه بالطبع ، أبو شنب رسم بهذه الأسلحة خطة الهروب ، وظل يعرضها امام القراء أعواما وأعواما ، والغريب أنهم لم يقرأوها او ينفذوها إلا بعد توقفه عن هذا العرض !!! .
ما أن توقفت صحيفته حتى عرفت معنى أن تسمع ما تريد ، فالصحف المصرية الأخرى دائما وأبدا تبحث عن ما يريده الناس لتنشره في جنباتها ، تبحث عن البيع ، مجرد البيع ، حتى وإن كان على حساب الوطن، أما أبو شنب ، فنظريته (ومدرسته أيضا) تختلف كثيرا في الصحافة ، فهو يسمعك ما يجب أن تسمع (من وجهة نظره بالقطع) ، لا ما تريد ان تسمعه ، هو لا يبحث عن بيع أو شراء ، وإنما يبحث عن معارضيه !!، نعم يبحث عن معارضيه ليضع آراءه بجوارهم ، فهذه هي وسيلته الوحيدة لقياس صحة هذه الآراء من عدمها ، أبو شنب ينتقد الكثير في جريدته ،و ينتقده الكثير أيضا في ذات الجريدة ، ويترك الحكم للقراء دون أي تحريك أو توجيه.
لن يستطيع شخص أن يخبرك أنه فعل ما فعله أبو شنب ، والذي من وجهة نظري ، هو بداية كرة الثلج التي تدحرجت وكبرت حتى أتاها اليقين لتصبح ثورة مصرية ، ربما تختلف معه (وخاصة بعد الثورة) ، ولكنك لن تستطيع ان تنتقص من مصداقيته ، أو تشكك في حبه لهذا البلد ، وهكذا علمني كيف أقرأ جريدته ، أن أسمع الرأي المخالف ، وأبحث فيه عن الصواب ، لأكمل به صواب رأيي ، دون تخوين او بحث في نوايا من كتب المقالة او الخبر.
أبو شنب عاد مرة أخرى ، وسيسعد قراءه ، كما سيسعد أصدقاء عمره وتلامذته الذين لم يفارقوه في معاركه ، ولم يفارقهم ، أبو شنب لم يحلق شنبه ، و لم يغير نفسه ، وسيظل كما هو ، مشاغبا ، مقلقا ، يبحث عن الآخطاء ليكشفها ، ويبحث عن المحاسن ليعلنها ، صوت أبو شنب هو أحد ضمانات بقاء هذه الثورة ، فلا تسكتوه ، فإن حدث ، فأعلموا أن هناك ثورة قادمة .
أبو شنب ، هو ابراهيم عيسى ، لا تحكم عليه من آراءه ، فقد تخالفها الآن ، ولكن أحكم عليه من مواقفه و أفعاله ، والتي لن ينكرها أي انسان.
صباح التحرير
تحياتي
ش.ز
0 التعليقات:
إرسال تعليق