الخميس، 21 يوليو 2011

المِراء ..


قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" أنا زعيم بيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً "

معنى المراء لغة:
المراء: الجدال. والتماري والمماراة: المجادلة على مذهب الشك والريبة، ويقال للمناظرة مماراة .
[1]     وماريته أماريه مماراة ومراء: جادلته [2]

معنى المراء اصطلاحاً:
المراء: هو كثرة الملاحاة للشخص لبيان غلطه وإفحامه، والباعث على ذلك الترفع
[3].
وقال الجرجاني: (المراء: طعن في كلام الغير لإظهار خلل فيه، من غير أن يرتبط به غرض سوى تحقير الغير)
[4].
وقال الهروي: (أَن يسْتَخْرج الرجلُ من مُناظره كلَاما ومعاني الخُصومة وغَيرها)
[5].

لأجل ما سبق من سطور ، قررت ان أصمت كثيرا عن المشاركة في هذا السيل من الأحاديث وتبادل الآراء المنتشرة على المواقع الإجتماعية والأخبارية ، بعد تأمل دقيق ، وجدت أن بعضا مما يحدث على هذه المواقع ، إن لم يكن معظمه ، يصل إلى مرتبة المراء ، مجرد طعن في كلام الغير ، وبحث عن نقط الضعف فيه ، ومهاجمته ، لإظهار خلله واضطرابه، لغير غرض سوى تحقير قائله وإظهار مزيته عليه !!.


قد يصيح البعض ، كما صاحت نفسي حينها: "ما هذا الضعف ؟! ، ألا ترى أنك تنسحب لمجرد أنك أقل حجة وأنك تتعلل بهذه الأفكار لمجرد الهروب ؟! ، هذه هي السياسة ، وإن كنت صاحب حق فعليك أن تهاجم ، وتبحث عن نقط ضعف غيرك لتهاجمه ، وتستخدم ذات أساليبه لتنتصر عليه" ، كدت أصدقهم وكدت أعود إلى هذا المراء ، لولا نظرة أخرى للحديث الشريف ، ولآخر جملة فيه "وإن كان محقا" !!.

هذا المراء ، هو ما جعل إحدى صديقاتي تسأل مستنكرة على صفحة الفيسبوك الخاصة بها : أولئك الذين يدعون أنهم يحترمون رأي الآخرين، لماذا يحاولون إقناعهم بنقيضه؟ ،  جادلتها قليلا ، فلم أجد في محاولة إقناعهم بنقيضه هو الخطأ ، ولم أجد حتى في اقتناعهم بصواب آراءهم هو الخطأ ، ولكنني وجدت الخطأ ، أن يؤكد البعض -وبكل ثقة- أن آراء غيرهم هي الخطأ ؟؟!!

دعني أبسط الفكرة كما بسطتها صديقة أخرى شاركتنا الحوار ، يمكنك أن ترى تفاحة حمراء اللون وتقسم وتؤكد أن التفاحة ذات لون أحمر ، فهذا ما تراه بعينك ، ويمكن لغيرك في مكان آخر أن يرى تفاحة خضراء اللون ، و يقسم أيضا أن التفاحة لونها أخضر ، لأن هذا أيضا ما يراه بعينه ، السؤال الآن هل في أي منهما كاذب ؟ ، بالطبع لا ، هل أخطأ أي منهما في قسمه أو تأكيده للون التفاحة ؟ ، أيضا بالطبع لا ، ولكن الخطأ سيحدث إن تجاسر أحدهما فأكد وأقسم بأغلظ الأيمان أن التفاحة التي عند غيره ، والتي لا يراها من الأصل ، هي على ذات اللون الذي يراه !!!.

مجرد التأكيد بأن غيرك على الخطأ ، هو دافع كاف للدخول في المراء ، لأنك ستعمل جاهدا في البحث عن أي عيب يظهر في كلامه ،أو في طريقة عرضه ، أو في تاريخه ، أو في شخصه لتثبت تأكيداتك المزعومة ، فلنقل مثلا ، أن يعيب صاحب التفاحة الحمراء في عين صاحب التفاحة الخضراء (عنده عمى ألوان يعني) ، أو أن يبدأ صاحب التفاحة الخضراء في التشكيك في إيمان صاحب التفاحة الحمراء ، والدليل هو لون التفاحة الشيطاني الذي يراه !!

ومن الدوافع إلى الأسباب ، فما الذي يدخلنا في هذا المراء ؟! هل هي الديمقراطية ؟! ، أم أنها الحرية التي صرنا نتمتع بها وبلا أي خطوط حمراء كنتيجة لهذه الديمقراطية ؟! كنت أتساءل وأنا عاكف على كتاب تحضير امتحان التويفل ، فإذ بمقالة عن الديمقراطية تظهر أمامي (السياسة ورائي ورائي)، تتحدث عن دراسة تسمى "الديمقراطية في أمريكا" ، الدراسة لباحث فرنسي يسمى أليكسيس دي توكفيل ، المقالة تتبنى فكرة جديدة ، فكرة تشعرك أننا قد نكون في الإتجاه الخطأ ، ليس على المستوى الإجرائي ، ولكن على المستوى الفكري ! ، الدراسة تمت نشرها عام 1833 ،أي بعد ما يقرب من 30 عاما من نهاية الثورة الفرنسية ، الفكرة الرئيسية في هذه الدراسة ، هي تصور توكفيل للديمقراطية على أنها مصدرا للقوة وليس مصدرا للحرية !.

يرى توكفيل أن اقتصار الديمقراطية على إطلاق الحريات ، وافتراض أن هذا هو أصلها المؤسس ، هو الخدعة الامريكية التي نشرتها للجميع ، وهي البداية الخطأ التي يمكن أن تشوه بها شعب أي دولة تحاول أن تطبقها ، فالديمقراطية عند توكفيل هي مصدر للقوة ، فهو يرى أن الديمقراطية الامريكية قامت على تفتيت القوة المركزية الموحدة ، وهي سلطة الملك والإرستقراطيات والطبقات الحاكمة ، وتوزيعها على الطبقات الأقل ، فلا ينفرد أحد بالسلطة ، ومن ثم تتلاشى النخب والطبقات المتسلطة فكريا و ماديا ، وهو ما ينتج عنه بعد ذلك إطلاقا للحريات إطلاقا منضبطا ، تحكمه توازنات للقوى ، ولا يحتوي على ما نراه من مراء مضيع للوقت و مثير للفتن.

ولكي لا نقع في المراء الآن ، فما قاله توكفيل لا يمكن تأكيده أيضا ، فديمقراطيته أشبه بالتفاحة الحمراء ، لا يمكن أن أنكر عليه لونها ، وهي بالفعل تفسر وإلى حد كبير بعض مشاكل الحكم الديمقراطي وتوابع تطبيقه ،  ولكنها في الوقت نفسه لا تستطيع أن تنكر القول القائل أن الديمقراطية مصدر الحريات -وهي الديمقراطية الخضراء-، والتي أزالت و إلى حد كبير الكثير والكثير من آثار قهر الشعوب وكتم آراءها.

الأمر يشبه وإلى حد كبير ما حدث بين أينشتاين ونيوتن ، فنيوتن هو الشخص الذي رأي الجاذبية على أنها قوة تجذب الأشياء إلى من يملك هذه الجاذبية ، أما أينشتاين فقد رأى في نظريته النسبية العامة  (وليست الخاصة المعنية بسرعة الضوء) أن الجاذبية ما هي إلا هندسة تجبر الأجسام على التحرك في مسارت محددة لا يمكن الخروج عنها ، الطريف أن أيا من النظريتين لم يستطع نسخ الآخر ، ولا نفي نتائجها وآثارها ، فنظرية إينشتاين التي أذهلت العالم والتي فسرت ما فشلت نظرية نيوتن للجاذبية في تفسيره من تمدد في الكون ، لم تتمكن من إلغاء ما بُني على نظرية نيوتن من معادلات تنطلق على أساسها الصواريخ وإلى الآن إلى الفضاء !!.


وعليه ،فلا زلنا نسبح في بحر الصواب أو الخطأ ، ومن ليس معي فهو ضدي ، ولكن هذا ليس ما يبني ، وإنما هو أصل الهدم ، وأصل عراك مستمر بين طرفين قد يكون كلاهما على الصواب !!. لا زلت أذكر ما قاله الشيخ الشعراوي يوما أن المعارك التي تطول هي معارك تكون بين الباطل والباطل ، لأن معارك الحق والباطل قد وعد الله أن ينصر الحق فيها سريعا ، لم يذكر الشيخ رحمه الله -ولعله لم يتصور- شيئا حينها عن معارك الحق والحق ، فهل للحق ضد الحق معارك ؟! ، أم أن لنا حينها أن نسميها الفتن !!.

قد يكون من السيئ أن لا ترى إلا ما تبصره عينك ، ولكن الأسوء أن تطعن فيما ييبصره الآخرون.

تحياتي

المصادر
[1] لسان العرب لابن منظور
[2] المصباح المنير للفيومي
[3] التعريفات الأعتقادية لسعد الدين آل عبد اللطيف
[4] التعريفات للجرجاني
[5] تهذيب اللغة لأبي منصور الهروي

0 التعليقات:

إرسال تعليق