الجمعة، 14 سبتمبر 2012

جي إدجار هوفر مصر !!


تحذير : قد يساورك بعضا من الملل خلال قراءتك للمقالة !!

في ليلة من ليالي الشتاء الطويلة ، كان قراري أنا وأمي أن ندخل السينما !!

كانت الأيام تحيطها الثورة ، يوم جمعة من جُمع المرحلة الانتقالية المثيرة ، ودراما المجلس العسكري والثوار و ٦ أبريل ومجلس الشعب الموقر -الذي كان على وشك انعقاده- وغيرها من أفلام السياسة المستمرة تحيط بالأجواء ، لم يكن لدينا أي فكرة عن الأفلام المعروضة في دور السينما آن ذاك ، كما لم يكن لدينا ما نفضل دخوله غير رغبتنا في عيش حالة افتراضية لمدة ساعتين بعيدا عما يحيط بنا من أحداث !!.

وبعيدا عن المبادئ الفوق دستورية ، والمعايير التي سيتم اختار أعضاء اللجنة التأسيسية للدستور عليها ، كان علينا أن نجد من المعايير ما يساعدنا على اختيار فيلم من بين أفلام أجنبية عُلّقت بوستراتها العملاقة فيما حولنا ، ولأننا اتفقنا على معيار الكفاءة وحسن السيرة السياسية .. أقصد السينمائية .. كانت صورة ليوناردو دي كابريو في فيلم كان مموها باسم مخرج معروف كـ (كلينت ايستوود) كافية لجذب انتباهنا ، ورغم أن الفيلم وبوستره الغامض واسمه الأكثر غموضا لا يوحيان بأي شئ عن مضمونه ، إلا أننا قد رأينا أن ما استقرت عليه عقولنا من معايير في الاختيار كانت كافية لجعل اختيارنا هو الأفضل ، وهذا ما اكتشفنا خطأه فيما بعد !! .

الدرس الأول : معايير جيدة لا تعني اختيار جيد

كانت أمي في انتظار فيلما يمتلأ بالحركة ، وكنت أنا في انتظار فيلم بوليسي غامض ، ولكننا وبعد أقل من عشرة دقائق من الفيلم ادركنا أننا أخطأنا الهروب من الواقع السياسي الذي نعيش فيه إلى فيلم يشوبه -وللأسف- الكثير من السياسة !!.

الفترة الزمنية في بدايات القرن العشرين ، وفي الوقت الذي كان سعد زغلول وثورته تشتعلان في القاهرة ، كان الشيوعيون يعيثون فسادا في واشنطون !! ، اضرابات عمالية ، كفر بالديمقراطية الأمريكية ، ضربات موجعة لها في كل مكان ، انفجارات وأعمال تخريبية ، أمريكا وأجهزة دولتها تحاول اجهاض شبه ثورة تخريبية فوضوية تشتعل في بلادها !!

الآجهزة الأمنية كان لها الدور الأهم (أو هكذا ظنت نفسها) ، لم يكن لدى أمريكا عسكرا للأمن المركزي ، ولا جهازا لأمن الدولة ولكن كان لديها أليكساندر ميتشل بالمر وهو المدعي العام الأمريكي والذي استخدم كل سلطاته فيما رآه حفاظا على أمن بلاده ، شن بالمر هجماته على جميع نشطاء اليسار المشتبه بهم في احداث هذه الفوضي ، تلك الهجمات والتي أطلق عليها فيما بعد اسم (غارات بالمر) كانت مثالا لانتهاك القوانين والحريات العامة ، والتي جعلت منها مثارا للجدل والانتقاد لاستخدامه فيها اساليبا كالتجسس والتعذيب للحصول على معلومات استخبارية عن هؤلاء المخربين !! .

الشئ الأهم الذي استخدمه بالمر والذي كان له أهم الأثر في تلك الهجمات ، هو فهرس "هوفر" سريع النمو ، ففي زمن لا يمتلك قواعد للبيانات ولا أجهزة كمبيوترية حديثة ، استحدث أحد مفتشي مكتب تحقيقات بالمر في انشاء فهرس مبتكر يضم أكثر من ١٥٠٠٠٠ اسم لمشتبه بهم في تلك الأحداث الفوضوية المزعومة ، هذا المفتش كان يسمى "جي ادغار هوفر" والذي قام بمعاونة بالمر في أكبر ضبطية جماعية في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية بالقبض على ما يقل عن ١٠٠٠٠ شخص تم ترحيل بعضا منهم من الولايات المتحدة بدون التأكد حتى من صحة اتهاماتهم !!.

سرعان ما فقد بالمر تعاطف الشعب معه ، وأصبح مصدر سخريته بعد أن توقع قيام ثورة شيوعية لم تحدث في ١ مايو ١٩٢٠ ، ترك منصبه وهو يرى نفسه بطلا أنقذ بلاده من خطر الشيوعييين المحقق ، وهكذا كان يراه تلميذه "جي إدجار هوفر" والذي كان يؤكد دائما أن لولا "بالمر" لأصبح الأمريكيون الآن يعيشون أزهي عصور الديكتاتورية الشيوعية وبعيدا عن ديمقراطيتهم التي يتفاخرون بها !!

إن كان قد تسرب إليك بعضا من الملل من سردي للأحداث السابقة ، فتأكد أن هذا كان شعور معظم من كان في السينما في ذلك الوقت !! ، فبعد أكثر من ٢٠ دقيقة من السرد المتواصل لفترة من مجاهل التاريخ الأمريكي بهجين سينمائي وتسجيلي ردئ ، اقتربت أمي لتسألني : "هو الفيلم ده حيفضل كده !!" ، طمأنتها متشككا أن نقطة تحول الفيلم قادمة بالتأكيد !!.

في اللحظة التي ظن فيها الجميع انتهاء مشوار "هوفر" في مكتب التحقيقات التابع للمدعي العام بنهاية مشوار "بالمر" فيه ، اكتشف الجميع تعيينه رئيسا لذات المكتب في عهد المدعى العام التالي والغريب أن ذلك قد تم بالموافقة على شروطه التي وضعها لقبول المنصب !!!
لم يجذب هذا أي انتباه للمشاهدين حولي ، والذين بدأوا في النعاس ، ولكنه أثار بعضا من الأفكار داخلي وجعلني أنظر إلى الفيلم نظرة مختلفة !!

الدرس الثاني : ان أصابك سلاحك فلا تغمده ، ولكن أحسن استخدامه !!

أعادني الفيلم للسياسة مرة أخرى !!

بعضا من التنظير قد بدأ في التسرب إلى نفسي.

في المجتمعات المتقدمة ، والدول التي كان لها السبق في معرفة أهرام السلطة الموزعة على مؤسساتها ، يكون الفصل بين هذه المؤسسات والسلطات ليس فقط بمجرد ضمان استقلالها ، ولكن أيضا ضمانا للحفاظ على طبيعتها التي أنشأت من أجلها !! ، كان "هوفر" شخصية ذات حس أمني شبه مرضي ، حس أثر علي حياته الشخصية وعلاقاته بالآخرين ، كان مبدأ الجمهوريين فيه واضحا وجليا ، فالأمن هو من يفرض القانون وليس العكس ، وكان انتماءه و انحيازه للأمن أمرا لا جدال ولا هوادة فيه ، فهو فوق القانون وفوق السياسة وفوق أي شئ آخر ، فكان كالسلاح المتعطش للقتل ، ليس ينقصه سوى السياسة التي توجهه ، وهذا ما قد يكون سببا لاستمراره رئيسا لمكتب التحقيقات الفيدرالية لمدة تزيد عن الأربعين عاما !! .

في هذه المجتمعات يكون العسكريون أكثر تعطشا للحروب والقتال ، ويكون الأمنيون أكثر نهما للمعلومات و تشككا فيمن حولهم ، في هذه المجتمعات تنتمى كل مؤسسة من هذه المؤسسات إلى مهنتها وتنحاز إليها ، وتنتظر من المدنيون الذين يحكمون البلاد أن تعمل على تنظيم تعطشها ونهمها بما يفيد مصالحها واستقرارها .

في بلادنا العربية قد تجد الهرم مقلوبا ، العسكريون يميلون للهدنة ، والأمنيون يجيدون البطش ويفتقدون المعلومات والخيال ، في بلادنا يعمل العسكريون والأمنيون إلى كتم أصوات المدنيين التي ارتفعت عندما فشل العسكريون والأمنيون في آداء مهمتهم المخولة إليهم !! .

استطاع "هوفر" بعقليته الأمنية المتعطشة - والمريضة أيضا - أن يطور كثيرا من أساليب التحقيق و البحث الجنائي ، فبعد فهرسه المبتكر الذي أعده من قبل ، أنشأ أول ملف تسجيلي لبصمات الأصابع في العالم ، واستحدث المعامل الجنائية ، وأكاديميات تدريب المحققين لجعلهم أكثر معرفة بالكثير من العلوم التي تساعدهم في تحقيقاتهم !!. وبغض النظر عن أهداف "هوفر" وتجاوزاته التي ارتكبها في حق القانون ، إلا أن هذه العقلية الأمنية قد طورت بهوسها الأمني الكثير من المؤسسة الأمنية الأمريكية !!

لم تهمني تلميحات الفيلم عن حياة "هوفر" الشخصية ، الفيلم أصبح لدي مجرد وثائقي عن كيفية بناء مؤسسة أمنية لدولة كبيرة ، وكيفية تعاملها مع جرائم تقليدية و أحداث استثنائية مرت عليها ، التزمت فيها بالقانون أحيانا ، واستبقته في أحيان أخرى ، وتجاوزته في أحيان كثيرة !!!

أمامي كانت زوجة أحد رواد السنيما وقد نامت علي كتفه ، وهكذا بدأت أمي بالنوم - وبدات الكيفية - على كتفي أيضا !!

الدرس الثالث : لكل قاعدة استثناء ، وليس لكل استثناء قاعدة !!

القاعدة هي أن القانون هو ما يفرض الأمن ، والاستثناء هو أن يفرض الأمن القانون .
كانت طبيعة "هوفر " أقوى من جعل فكره الأمني الذي يتبناه شيئا يفرض من خلال قانون ، فقد كان يري أن القانون معطلا له في الكثير من الأحيان ، "هوفر" أراد لفكره الذي يؤمن به أن يفرض هو القانون ، وهذا ما جعله مثارا لللغط والاتهامات.

استخدم "هوفر" ما لديه من معلومات لابتزاز الكثير من مسئولي و رؤساء الولايات المتحدة ، كان ميكافيلي الفكر ، لا يهمه استخدام هذه المستندات والمعلومات -والتي كان يلفقها احيانا – في سبيل تمرير قانون يبتغيه أو ايقاف خطر أمني يشعر هو بالقلق تجاهه.

كان "هوفر" أمنيا ، لا يبالي كثيرا بالحقوق المدنية ، ولذا كان من الطبيعي أن يكون "مارتن لوثر كنج" أحد أهم أعداء الوطن بالنسبة إليه ، والذي لم تمنعه تهديداته إليه من الاستمرار في نضاله المدني ، مما جعل من اغتياله عملية تشار أصابه الاتهام فيها إلى المباحث الفيدرالية إلى الآن !!

الفيلم كما قيل عنه في الكثير من التعليقات عليه "دعاية هوفرية" ، حاول فيها صناع الفيلم "الجمهوريون" -كما يعتقد البعض- تصدير صورة هوفر البطل المنقذ ، دعاية تشبه ما فعلها هو لنفسه وقتا من الأوقات محاولا سحب بساط الشعبية من الدولة نحو المؤسسة الأمنية !!

الدرس الرابع : الدعاية هي عملية تجميل لكائن قد يفتقد الجمال !

منذ عام أو عامين كنت أشاهد بالصدفة بعضا من تلك الإعلانات الركيكة التي كان يعرضها التليفزيون العراقي عن الشرطة العراقية !! ، ربما الجهل في مجتمعاتنا العربية قد جعل من هذه الإعلانات ضرورة لايصال رسالة للجهلاء أن الأمن قد استتب و أن الشرطة في أتم القوة والعافية !! ، يحدث هذا وعلى بعد عدة أيام تستيقظ على خبر عملية تفجيرية حدثت في أرض الرافدين !!!

ما كان يفعله الإعلام العراقي ، كان يفعله "هوفر" في بدايات الفرن الماضي أيضا ، كان "هوفر" مؤمنا بمؤسسته الأمنية ، ولكن قلة انجازاتها ، أو ضعف تأثير هذه الإنجازات على العامة ، دفعه إلى التفكير في الترويج إلى بعض الخيال !!.

كان تلاعبا بمشاعر الناس الذين إن تأثرت يمكنك أن تستخدم تأثرها في الدفع نحو ما تريد من اقرار للقوانين واستمرار المؤسسات ، كان لابد لأي مواطن أمريكي حين يدخل لمشاهدة فيلم سينيمائي أن يرى اعلانا عن بطولات مكتب التحقيقات ورئيسه العظيم "جي ادجار هوفر " ، دخل "هوفر" في سباق محموم مع السلطات ليثبت أنه الذراع التي تحمي المواطنين ، وأنه هو أهم أركان النظام والذي لابد أن يستندوا عليه وليس غيره !!.

الجميع يفعل ذلك في الدول الأخرى ، عبد الناصر ألهب حماس الجماهير وجعل من صورة ضابط الجيش المصري الوطني ركنا من أركان الدولة المصرية لعقود طويلة ، أمريكا لا زالت تفعل ذلك ولكن عن طريق مسلسلاتها وبرامجها التليفزيونية والتي روجت فيها لبرامج مكافحة الإرهاب وأهميتها لحماية الدولة !!

حين تعجز مؤسسات الدولة عن الوصول إلى الناس على أرض الواقع بقدر الوصول إليهم في مخيلاتهم ، فهي إما مقصرة في عملها ، أو أنها تحاول الاستحواذ على حيز أكبر لا تستحقه !!.

الدرس الخامس : الوطنية لها وجهان !!

كما هو الحب قد يحتال إلى الأنانية وحب الأمتلاك ، هكذا الوطنية قد تحتال إلى الذاتية وحب الفرد !!

للوطنية وجه مشرق يتجلى حين يفقد المرء حياته لانقاذ وطنه ، وللوطنية وجه قبيح حين يظن أحدهم أنه هو الوطن وأن انقاذه وانقاذ أفكاره أو شخصه أو مؤسسته هو انقاذ للوطن ، لتختلط حينها وطنيته بالجبن والحمق والغباء !! .الوطنية بهذا الشكل القبيح ، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون مدعاة للشرف أو الفخر ، وإنما هي كمن أراد الانتحار فقرر أن يقتل من أحب معه خوفا عليهم بعد موته !!

لم يكن هوفر بهذا السوء ، لكنه في أحيان كثيرة وقف وقفة من يفضل مؤسسته على كيان دولته ، استخدم من الأساليب من يشوه هذا الكيان بدعوي حمايته ، رأى أن وطنيته و نوياه الحسنة كانت كفيلة لاتمام ما أراد ، وربما كانت وصيته الأخيرة لسكرتيرته -قبيل وفاته- أن تتلف جميع الملفات التي استغلها لابتزاز السياسين تثبت شيئا من حسن هذه النوايا .

الدرس الأخير : متدخلش فيلم قبل ما تشوف الريفيوز بتاعته :)

انتهي الفيلم ، اشتعلت الأضواء ، أيقظتُ أمي كما أيقظ الكثير ممن كان في السينما رفقائهم ، لا داعي لذكر تعليق من تبقى من مشاهدي الفيلم أثناء خروجنا منه !! ، خرجت متفكرا ، سألتني أمي ساخرة من اختياري للفيلم : “فهمت حاجة من الفيلم ده ؟!”

أجبتها متفلسفا :

"لا شك إن هوفر عمل تطوير كبير بشهادة أعدائه وبنى مؤسسة معتمدة على المهنية …

ليس من المتوقع أن لا ترى في نفسها الحل والمنقذ للوطن ، على العكس ، فهذا ما يجب أن تكون عليه كل المؤسسات ، ولكن تقديم ذلك كوسيلة تستخدمها الدولة لتحقيق أهدافها ، وليس تقديمه كهدف تحاول المؤسسه تحقيقه على حساب الدولة !!

الأمن لا ينقذ الدول ، ولكن اليد الممسكة بيد الأمن هي المنقذة ، وهي التي قد تحسن استخدامه في حماية الوطن ، أو تتركه فيعيث في الوطن فسادا لا يمكن تداركه !!

أمريكا لم ينقذها الأمن من الشيوعيين كما حاول أن يصور الفيلم في دعايته الهوفرية ، أمريكا أنقذها نظام ديمقراطي استطاع أن يحاسب "بالمر" عندما أخطأ ، والاستفادة بمن هو مثل "هوفر" رغم مساؤه وأخطاءه.

الأمن مش هوه اللي انقذ أمريكا من الشيوعيين .. النظام الديمقراطي هوه اللي حمي أمريكا من الشيوعيين والي حاسب واحد زي بالمر وأقاله وجاب واحد زي هوفر واستخدمه …

أحيانا قد تتسآئل ، كيف يمكنني أن تبني مؤسسة في الدولة من فراغ ، ستحدث بالفعل العديد من التجاوزات في البداية ، ولكنك أيضا ستعتمد على الثقة فيمن يضع هذه التجاوزات في اطار قانوني سليم . المعضلة هي الحاجة إلى من يضع هذه الثقة في اطار قانوني يمكننا محاسبته به على أفعاله.

المعضلة في وجود قانون لمحاسبة واضع القانون نفسه !!"

نظرت إلى أمي غير عابئة بفلسفتي وكلامي ، فأردفت قائلا :

"وأهم ما يستفاد من هذا الفيلم : متدخلش فيلم قبل ما تشوف الريفيوز بتاعته :)"

ملحوظة لابد منها :
الفيلم احتوى على الكثير من المشاهد التمثيلية جيدة الصنع ، وربما كان للسيناريو المفكك ، والتردد الواضح في أخذ موقف محدد من حياة "هوفر" والوقوف على الحياد ، جعل من الفيلم مملا ينقصه الكثير من عناصر الإبهار السنيمائية.

تحياتي
ش.ز

0 التعليقات:

إرسال تعليق