![]() |
مضيق جبل طارق ... المغرب يمينا .. الأندلس يسارا .. |
(جندي
في جيش طارق)
الزمان
التاسع عشر من يوليو من العام الحادي عشر
وسبعمائة من الميلاد ..
المكان
علي الطرف الآخر من البر ، بعد مضيق البحر
الذي عبرناه نحو بلاد القوط ، وفي وسط سهل
يسير بجواره نهر يصب في البحر أسميناه
"وادي
لكة"..
أما
أنا فلست إلا مجرد جندي مسلم ما عدت أذكر
لي عرقا في وسط جيش أذاب الأسلام أعراقه
العربية والبربرية ، جيش كان قوامه السبعة
الاف مقاتل يقودهم قائد يسمى "طارق
بن زياد"
والذي
لم تمنعه أصوله البربرية أن يكون رأس هذا
الأمر الجلل كله ، قائد جعل ينظم صفوفنا
ويشد من أزرنا ونحن نري أمامنا جيوش القوط
بقيادة كبيرهم (لذريق)
والتي
فاق عدتها المائة ألف مقاتل ، نظرنا حينها
إلى أنفسنا ، ثم نظرنا إليه ، فوجدناه
ثابتا ، لم تهزه هذه الجموع ، فثبتنا ،
ولمعت عيونه وهو ينظر إلينا وكأنه يسأل
كل منا أن ننظر إليه بقوة ، فنظرنا ، فإذ
به يخطب فينا قائلا :
"أيها
الناس، أين المفر؟ البحر من ورائكم،
والعدو أمامكم، وليس لكم والله إلا الصدق
والصبر، واعلموا أنكم في هذه الجزيرة
أضيع من الأيتام علي مائدة اللئام، وقد
استقبلكم عدوكم بجيشه وأسلحته، وأقواته
موفورة، وأنتم لا وزر لكم إلا سيوفكم،
ولا أقوات إلا ما تستخلصونه من أيدي عدوكم،
وإن امتدت بكم الأيام على افتقاركم، ولم
تنجزوا لكم أمرًا ذهبت ريحكم، وتعوَّضت
القلوب من رعبها منكم الجراءة عليكم،
فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من
أمركم بمناجزة هذا الطاغية (يقصد
لذريق)
فقد
ألقت به إليكم مدينته الحصينة، وإن انتهاز
الفرصة فيه لممكن، إن سمحتم لأنفسكم
بالموت !!.
وإني لم أحذركم أمرًا أنا عنه بنجوة، ولا حَمَلْتُكُمْ على خطة أرخص متاع فيها النفوس إلا وأنا أبدأ بنفسي، واعلموا أنكم إن صبرتم على الأشقِّ قليلاً، استمتعتم بالأرفَهِ الألذِّ طويلاً، فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي، فما حظكم فيه بأوفى من حظي"
وإني لم أحذركم أمرًا أنا عنه بنجوة، ولا حَمَلْتُكُمْ على خطة أرخص متاع فيها النفوس إلا وأنا أبدأ بنفسي، واعلموا أنكم إن صبرتم على الأشقِّ قليلاً، استمتعتم بالأرفَهِ الألذِّ طويلاً، فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي، فما حظكم فيه بأوفى من حظي"
كبّرنا
وراءه ، وحدثت نفسي قائلا :
ومن
سيمنع نفسه من الموت اليوم !!
لم
أكن حديث الإسلام عندئذ ، ولم يكن مستغربا
بعد ما سمعته من ذلك القائد أن أدرك ما
نحن على أعتابه الآن ، فنحن على أعتاب قمة
هذه الحضارة وذروة سنامها ، نحن على أعتاب
درة تاجها وزخرفها ، نحن على أستار سمائها
التي إن نتمسك بها و نحافظ عليها فليس لنا
بعدها إلا السقوط … السقوط ..
---------------------------------------
(فارس
من فرسان غرناطة)
الزمان
في أواخر العام الحادي والتسعين و اربعمائة
وألف من الميلاد.
المكان
على أسوار غرناطة آخر أنفاس المسلمون
والعرب في الأندلس .
أما
أنا ففارس من فرسان غرناطة ، شاهد على
سقوط بلنسية و طليطلة وأشبيلية و قرطبة
، شاهد على سقوطها من أيدي ملوكها التي
تقسمت وتشرذمت وجعلت من ملك العرب والمسلمين
أملاكا يتوارثونها بين أبنائهم ، فارس
أخمدت سيوفه الخيانات و الصراعات وكبلت
قواه التآمرات والمعاهدات فمنعته أن
يقوم ليحفظ مجد آبائه وأجداده وسمحت له
أن يراه يسقط ذليلا بعد أكثر من سبعة قرون
عاشها فوق هذه الأرض ، فارس منعوه من الموت
، بعد أن سمح أجداده للموت أن يدخل قلوبهم
فبنوا عزا ونشروا عدلا و أقاموا حضارة
أنارت العالم فطمع فيها الطامعون.
على
أسوار غرناطة كنا واقفين نحاول أن نبقيها
حية وسط عالم من الموت ، كنا نقاتل يائسين
لعلمنا أن سقوطها في الأصل كان في سقوط
من سبقها ، ولكن فروسيتنا وإسلامنا
وعروبتنا هي ما منعتنا من الخضوع لما أقره
الأمراء من الإستسلام ، فالموت لدينا
كان أشرف من العيش تحت إذن من يعتدون علينا
، هكذا كان رأي قائدنا ، موسى بن أبي
الغسّان ، ذاك الذي أعلى رأيه في وسط قصر
الحمراء وبين أمرائه قائلا :
"ليعلم
ملك النصارى أن العربى قد ولد للجواد
والرمح، فإذا طمح إلى سيوفنا فليكسبها
غالية ، أما أنا فخير لي قبر تحت أنقاض
غرناطة، في المكان الذى أموت مدافعاً
عنه، من أفخم قصور نغنمها بالخضوع لأعداء
الدين"
قالها
و خرج ليجمع الثابتين منا لندافع عن آخر
أنفاس الأندلس ، لم ينظر لعددنا القليل
، فهكذا قال لنا أن أجدادنا قد هزموا لذريق
بسبعة الاف جندي مقابل مائة ألف ، فلم
الخوف الذي يسكن أعماقنا ؟ ، هل هو الخوف
الذي زرعه التشرذم والتقاتل وحب الدنيا
فينا ، أم أنه خوف الرجل الواحد الذي لم
تعد قلوب جميعنا عليه ؟!،
فجميعنا الآن يسأل من المخطئ ومن المصيب
، جميعنا الآن يبكي ويولول على أرضه التي
أضاعها بعدما ترك أرض أخيه يأكلها المغتصب
بل وجعل يبرم اتفاقات الصلح معاونته له
في أكلها أملا ألا يأكله يوما !!!
في
بهو الأمراء جعل أبو عبد الله محمد الصغير
يوقع اتفاقية التسليم مع زعماء مملكتي
أراجون وقشتالة ، هاتين المملكتين التي
اتحدتا وتزوج ملكها فرناندو من ملكتها
إيزابيلا ، اتحدوا مقابل تفرق العرب
المسلمون ، جعلوا يوقعونها وهم يتصنعون
البكاء والعويل ، وموسي بن أبي غسان يصيح
بينهم ويردد :
"
اتركوا
العويل للنساء والأطفال، فنحن لنا قلوب
لم تخلق لإرسال الدمع ولكن لتقطر الدماء،
وحاشا لله أن يقال إن أشراف غرناطة خافوا
أن يموتوا دفاعا عنها ، لا تخدعوا أنفسكم
ولا تظنوا أن النصارى سيوفون بعهدهم ولا
تركنوا إلى شهامة ملكهم إن الموت أقل ما
نخشى، فأمامنا نهب مدننا وتدميرها وتدنيس
مساجدنا وأمامنا الجور الفاحش والسياط
والأغلال والأنطاع والمحارق، وهذا ما
سوف تراه تلك النفوس الوضيعة التي تخشى
الآن الموت الشريف، أما أنا فوالله لن
أراه "
سلمت
غرناطة لمغتصبيها في الثاني من يناير من
العام الثاني والتسعين وأربعمائة وألف
من الميلاد ، اختفي موسى بن أبي غسان من
بيننا حيث لا مكان لوجوده في وسط هؤلاء
الخاضعين ، أما أبو عبد الله محمد الضغير
فيحكى أنه جلس يزفر زفرته الأخيرة ، ويبكي
ملكه الضائع في الوقت الذي جعلت أمه الحرة
(عائشة)
تعيره
بضعفه قائلة :
"
ابك
كالنساء ملكا مضاعا لم تحافظ عليه مثل
الرجال"!
أما
نحن فصرنا طبقا لمعاهدة التسليم رعايا
مملكة ليون وقشتالة ، والتي لا يضمن حقوقنا
وديننا وما نملكه فيها سوى وفائهم بالعهد
الذي لم نعهده منهم !!!
---------------------------------------------
(عربي
في القرن الواحد والعشرين)
الزمان
الثاني من يناير من العام الثالث عشر
وألفين من الميلاد.
المكان
القاهرة التي لم يستطع سلطانها المملوكي
الأشرف قايتباي أن يدفع عن ما تبقي من
المسلمين في الأندلس عندما استنجدوا به
من ظلم ملوك المسيحيين !!
أما
أنا فذلك العربي الذي لا تمثل له الأندلس
إلا مجدا ضائعا ، أضاعه من تفنن في إضاعة
أمجاد الخلافة الأموية والعباسية
والعثمانية ، أضاعه من جعلوا يقتتلون علي
مغانم الدنيا و فلسطين تسرق من عصابات
صهيونية لتجعل من القدس الشريف طبقا يقسم
على مائدة المفاوضات.
أنا
العربي الذي لا تمثل له الأندلس إلا السماء
التي بات التفكير فيها رفاهية بعد أن أضاع
أرضه من يديه ، أنا العربي الذي صرت الآن
أقاتل لأستعيد أرضي حتى حدود سبعة وستين
فقط !!!
،
بعد أن صار سلاحي وطعامي وشرابي يتحكم به
أعدائي.
أنا
العربي الذي سيكتشف يوما ، أنه إن لم يفكر
في السماء فلن تعود له الأرض ، وأنه إن لم
يتعلم من أخطاء ماضيه فلن ينصلح له مستقبل
أبدا ، وأنه إن ظل متشرذما بين حكام تتقاتل
على الأمارة والحكم فسيسلموه لأعدائه
كما سلموا غرناطة ، غرناطة التي كانت آخر
أنفاس الأندلس ، ولكنها لم تكن آخر أنفاس
العروبة والإسلام ، والتي لازالت على
فراش الموت تنتظر طبيبا يسمع تاريخ مرضها
الطويل ليكتب لها العلاج .
ليكتب
لها العلاج …
تحياتي
ش.ز
0 التعليقات:
إرسال تعليق