لم أتفاجأ عندما وجدت تلك اللافتة القماشية الكبيرة معلقة أمام مدخل
عمارتنا السكنية ، بل كنت في قمة سعادتي وأنا أرى مثل هذه اللافتات منتشرة في
أرجاء الشوارع حولنا ، فقد بدأت الدعاية الإنتخابية ، وهي دعاية لم أرى مثلها من
قبل ، هذه المرة ستدرك تماما أن هذه الإنتخابات ليست محسومة إلى حزب بعينه ، ولا
يوجد فصيل بعينه يستطيع أن يؤكد فوزه بالأغلبية فيها ، فبعد أن كانت معظم اللافتات
في الإنتخابات السابقة تعلن تأييدها فقط لمرشح الحزب الوطني المنحل والفاسد ، أصبح
الآن هناك أكثر من مرشح وأكثر من مؤيد ، هذا وإن كان ينبأ بالكثير من جولات
الإعادة ، إلا إنه بالنسبة لي يؤكد شيئا واحدا ، أننا مقبلون على اختبار جديد
لثورتنا ، ولرغبتنا الحقيقية في التغيير ، وهو ما سيكمن في طريقة اختيارنا ،
وتعاملنا مع أول ممارسة ديمقراطية نزيهة في بلادنا.
ولم أتفاجأ أيضا عندما عرفت أن المرشح الذي يزين مدخل منزلنا بلافتته
الدعائية ، هو من مرشحي الفلول في منطقتنا ، ولكنني جلست أنظر إلى اللافتة بتمعن
بالغ من داخل سيارتي ، وأفكر في الطريقة التي يمكن أن أواجه بها أمثال هؤلاء ، كم
هم مرضى هؤلاء الناس ، فما يهمهم هو الوصول إلى الحكم والحصانة ليس إلا ، المقعد
البرلماني في نظرهم هو مجرد تشريف لا تكليف ، والغريب أنهم بعد زلزال ثورتنا لا يزالوا
على ذات اعتقادهم بقدرتهم على الإستمرار ، رغم غياب من كان يزور لهم ويمنحهم هذه
المناصب مقابل سكوتهم !! .
"ما هو حيعلق غيرها يا بشمهندس ... وبعدين ما هوه حيفوز حيفوز
!!"
كان محقا في الجزء الأول ، ولكنني اعترضت على جملته الثانية قائلا :
"لن يفوز إلا إذا انتخبناه ، إنت ناوي تنتخبه ؟؟!!"
رد علي قائلا :
"هوه فيه غيره يا بيه .."
قلت له :
"الكثير ... فيه مرشحين كثير .. مستقلين و من احزاب الوسط والإخوان
..."
قاطعني قائلا :
"الإخوان دول حيخربوها يا بيه ... حيصلحوها شويه وبعدين يخربوها ...
"
قلت له ضاحكا :
"يعني ده أما حيمسكها حيصلحها علطول .. ده حيخربها طوالي ..."
قال لي :
"أمال حنعمل إيه يا بشمهندس .."
قلت له :
"أنا حاجبلك أسماء المرشحين وأشرحلك هما مين .. وإنت إبقى انتخب اللي
إنت عاوزه "
"وبعدين إنت فكر كده ... هوه إحنا مش كنا قاعدين سوا هنا بنحرس بيوتنا
ده عشان الناس ده تمشي ... دلوقتي نرجعهلهم تاني ؟؟!!"
وقف أمامي شاردا ، فتركته وقد استبعدت تماما تماما فكرة إتلاف اللافتة ، فهي
لا فائدة منها كما قال لي ، فهو سيعلق أمثالها ألفا ، فقررت أن أنتقل إلى الخطة
الثانية ، وهي أن أعلق على ذات اللافتة ما يوضح ان هذا المرشح هو من فلول الحزب
الوطني ، أخبرت البقال المجاور لنا بفكرتي ، فقال لي وهو يحضر لي طلباتي التي
طلبتها منه :
"وهوه فيه حد مش عارف يا بشمهندس ..."
قلت له :
"طب وبعدين ؟؟ ..."
قال لي :
"ولا قابلين ... سيبهم يشوفوا مين اللي حينتخبهم .."
"دول محدش كان بينتخبهم إلا بلطجيتهم ، وبالتزوير ، ويمكن أما تعمل كده يقعد يقولك
بتشوهوني ، ويقولك إنه كان متحارب من الحزب ، وإنه أشرف من الشرف ، ومش بعيد يطلع
غيره هما الفلول ، ومش حتخلص منهم دول ..."
وقفت متأملا لكلماته ، ربما كان لديه حق في عدم رغبته في الدخول في صراع مع
هؤلاء ، فهم لا يملكون من الشرف أن تقاتلهم بهذه الطريقة ، بل وقد يبدأوا في طعن
الكثيرين في ظهورهم ، ولذا بدأت أيضا في استبعاد هذه الخطة أيضا ، وجعلت أفكر في
غيرها .
خلال تفكيري حاولت أن أشارك أخي عصفا فكريا لإيجاد الطريقة المثلى لمواجهة
هؤلاء ، قال لي :
"وما يضيرك من هؤلاء ؟! "
قلت له :
"سيخدعون الناس ، ومن ثم سيفوزون بمقاعد البرلمان"
قال لي :
"وماذا إن حدث؟!"
قلت له :
"سيخربون الحياة السياسية"
قال لي:
"من قال لك أن هؤلاء من كانوا يخربون الحياة السياسية، هؤلاء كانوا
مجرد أدوات في يد عقول النظام السابق الفاسدة ، وإن فازوا الآن ، فلن يكونوا إلا
أدوات في يدينا ، نحركهم كيف نشاء ، وإن لم يفعلوا ، فسنخرجهم من البرلمان في
الدورة القادمة "
فكرت كثيرا في كلامه ، ربما هو لا يعنيه ما يشعله الكثيرون من مناقشات حول
من يضع الدستور ومن لا يضعه ، و الخوف من الإسلامين أو السلفيين ورغبتهم في تطبيق
الشريعة ، كل ما عناه أخي بكلماته هو دوران عجلة الديمقراطية ، وضمان استمرار دورانها
، وهو الضمان لاستمرارنا في طريق الإصلاح حتى وإن طال!! .
وهذا ما قاله د.طارق البشري في حوار له يوما ما ، أن ما سنفعله في مرحلتنا
الإنتقالية هو ما سنفعله طوال حياتنا ، فإن احترمنا أحكام القضاء حتى وإن كانت
ظالمة في هذه الفترة ، فهذه هي الضمانة لقدسية القضاء وأحكامه في مستقبل بلادنا ،
ومن ثم فعلاج الظلم فسيكون بتغيير التشريع و القوانين التي تسمح به ، وهذا لن يكون
دور القضاء ، وإنما هو دور نواب الشعب الذي سينتخبهم الشعب ، وبالمثل لمسألة
الإنتخابات والدستور ، فإننا إن مارسنا الآن آلية نزيهة ومضمونة لانتخاب نواب
الشعب ، ومن ثم كتابة الدستور ، فلن يضيرنا من هم نواب الشعب وما هو الدستور
المكتوب ، ما دمنا قد ضمنا آلية مارسناها لتغير هؤلاء النواب و تغيير هذا الدستور
في المستقبل .
أعجبني حينها تشبيهه لمصر بالسيارة المتعطلة في وسط الشارع، و التي تحتاج
إلى من ينقلها إلى مكان إصلاحها ، خاصة مع عدم وجود من كان يحمل لواء هذه الثورة
منفردا ، ومكان إصلاحها من وجهة نظره هو برلمان منتخب قادر على تنفيذ طموحات شعبه
، كان يرى أيضا ان علينا الإسراع بإقامة هذا المجلس ، و إيصال السيارة إلى مكان إصلاحها
، وإلا فطول بقاؤها في الشارع سيجعلها هي و الثورة عرضة للسرقة من أي فصيل يطمع
فيها وفي أي حين .
وبالفعل ، هناك من لا يريد وصول السيارة إلى بر الأمان ، هناك من يعرف أن
وجود مجلس شعب منتخب بطريقة شرعية يعني وجوب صمته ، و انعدام المبررات لإثارة
الشارع ، وإقامة المليونيات ، ولذا يحارب الجميع لعدم وصولنا إلى هذه النقطة ،
ولقطع يد الناخبين قبل وصولها إلى الصناديق ما دام لم يعد قادرا على سرقة الصناديق
نفسها !!.
هنا تبددت سحابة الخوف من صدري ، وما عدت أخاف من هؤلاء الفلول بقدر خوفي
على العملية الإنتخابية ذاتها والمتربصين بها، فأفضل طريقة لعلاج هؤلاء المرضى ، هو
مجرد أن نبقي على دعايتهم ، مع العمل جاهدين على خسارتهم في هذه الإنتخابات ، فلعل
هذا ما سيجعلهم يفيقوا من ذلك الوهم ، و يدركوا أنه لن تنفعهم هذه الدعاية أبدا ،
وأننا تغيرنا وأصبحنا أقدر على فهم حقوقنا ومن يستطيع الحفاظ علينا ، كما أصبحوا
هم لا يصلحون لهذا الدور بعد ما أفسدوا حياتنا خلال فترة النظام السابق.
إذن فلنبدأ أول خطواتنا نحو الديمقراطية ، نحو إنتخابات نزيهة نمارسها لأول
مرة ، فإن خطوناها ، فلن تكون الأخيرة ، فاز فيها من يفوز ، أو كتب بعدها الدستور
من يكتب، المهم الآن هو الإنتصار على هؤلاء الذين لا يريدونها باختيار الشعب ،
إنما يريدونها باختيارهم ، ولعل اختيار الشعب لفلول الوطني كي يمثلوه هو أهون من
اختيار هؤلاء لنا أن يحكمنا العسكر إن لم يحكموا هم أو إذا جاء فصيل سياسي يخشونه
إلى الحكم.
وعليه ، فحقيقة أنا لا يعنيني الآن مليونية ال 18 من نوفمبر و لا من يدعوا
إليها و لا مطالبها أو جدواها بقدر ما يعنيني مليونية ال 28 من نوفمبر والتي لن يكون
مكانها هو ميدان التحرير ، وإنما سيكون مكانها هو مراكز الإقتراع ! .
في انتظاركم ...
تحياتي
ش.ز
0 التعليقات:
إرسال تعليق